الآن وبعد أن برهنا على أننا لسنا أمة غبية، كما اعتقد السيد "روف" وأمثاله، وبعد أن أجرينا انتخابات بيّنت مدى أهمية العراق في تشكيل السياسات الأميركية للعام الجاري، فقد تصادف لي أن زرت الصين مؤخراً، وفي تقديري أنها ستكون الدولة المرشحة لتشكيل السياسات الأميركية لعام 2008. ومع أن الحرب الأهلية التي ستندلع شرارتها قريباً في أوساط "الجمهوريين"، ستدور رحاها حول العراق، وحول على من تقع اللائمة، وما هي استراتيجية الخروج، قبل أن يجرف الطوفان مزيداً من المرشحين "الجمهوريين" في انتخابات عام 2008، فإن المتوقع أن تكون الصين، محور الحرب الأهلية التي ستندلع شرارتها في أوساط "الديمقراطيين". ولذلك فإنني لا أزال متمسكاً بقناعتي الراسخة، وإن لم يفرغ المؤرخون من تسجيل أحداث هذه الحقبة العصيبة من تاريخنا المعاصر، بأن الحدث الأهم والحاسم فيها، لن يكون هجمات 11 سبتمبر، ولا غزونا لكل من العراق وأفغانستان، وإنما بروز العملاقين الآسيويين؛ الصين والهند. لذلك فإن الاتجاه الواجب علينا مراقبته ورصده عن كثب، هو مدى قدرة بقية دول العالم على التكيف مع بروز هاتين القوتين، وكيف تتمكن أميركا من التعاطي مع الفرص الاقتصادية الكبيرة التي يتيحها هذا النهوض الآسيوي، وكيف ستستجيب للتحديات التي يثيرها أمامها؟ وإنه لتصعق المرء حقاً، مناظر المباني وناطحات السحاب الشاهقة التي تنتشر في كافة أنحاء شنغهاي، وكذلك عندما ينظر أحدنا إلى العالم الخارجي بعيون غير أميركية. وكما قال لي كيشور ماهبوباني، عميد كلية "كوان يو" للسياسات العامة في سنغافورة، فإن القارة الآسيوية، تعد اليوم أكثر مناطق العالم وعداً وتفاؤلاً. فهناك تمكنت أعداد كبيرة من المواطنين، لاسيما في الهند والصين، من الخروج من دوامة الفقر، بمعدل أسرع مما حصل في أية منطقة أخرى من العالم. ولذلك فما أكثر عدد الذين يستيقظون من نومهم هناك كل صباح، وهم أكثر ثقة بأن يومهم الجديد سيكون أفضل مما كان عليه أمسهم، بما لا يقاس. غير أنه علينا أن ندرك، أن تفاؤل شخص ما في بقعة ما من بقاع العالم، ربما يعني تسطيح أجر شخص آخر في بقعة أخرى من كوكبنا في المقابل. ومن هنا فإن المرجح أن تحدث مواجهة مرتقبة بين "الديمقراطيين" والعملاق الصيني، في هذا الخصوص. ويلاحظ أن تركيز إدارة بوش وسياساتها على العراق والحرب على الإرهاب، مقترناً بضعف موقف "الديمقراطيين" داخل مجلسي الكونجرس، قد جعلا العلاقات الأميركية- الصينية في مأمن كبير، بل ونامية نسبياً خلال إدارة بوش الحالية. بيد أن هناك عاملين يقدر لهما أن يحدثا تغييراً جوهرياً في مسار هذه العلاقة. أحدهما عودة سيطرة "الديمقراطيين" على كلا المجلسين، مقترنة ببروز نجم ساسة من أمثال "نانسي بيلوسي" التي طالما عرفت بمواقفها المتشددة إزاء الصين، فيما يتصل بسياساتها الاقتصادية وبسجلها في مضمار حقوق الإنسان، وكذلك السيناتور شيروود براون الذي انتخب أخيراً عن ولاية أوهايو. وقد جاء هذا السيناتور معززاً بحزمة قوية من سياسات الحماية الاقتصادية المتشددة، التي تعزى إلى ما فقدته ولايته من آلاف الوظائف في القطاع الصناعي، لصالح العمالة الآسيوية. أما العامل الثاني، فهو ذلك المزاج الاقتصادي الذي عكسه تحليل نشر في عدد 2 نوفمبر من صحيفة "فاينانشيال تايمز" تحت عنوان "الوسط القلق: كيف خسرت عامة الأميركيين فوائد النمو الاقتصادي؟". والشاهد أن التكنولوجيا والعولمة تعملان معاً، على تسطيح ملعب الاقتصاد العالمي اليوم. وبذلك تتمكن عمالة كثير من الدول النامية، من منافسة نظيرتها في الدول المتقدمة، في الحصول على وظائف "ذوي الياقات البيضاء والزرقاء"، مع العلم بأن هذه الوظائف كانت حكراً في النظام العالمي القديم، على عمالة الدول المتقدمة وحدها. وهذا هو عين السبب الذي أحدث فجوة ملحوظة بين نمو دخل متوسط العمال الأميركيين، ومعدل نمو ناتجنا القومي الإجمالي. وهذه الظاهرة هي ما أطلق عليها الاقتصاديون اصطلاح "ركود متوسط الأجور". وقد أشارت صحيفة "فاينانشيال تايمز" إلى ذلك في تحليلها بالقول: "إن قياس متوسط الأجور، يرسم أمثل صورة لما يحدث لأجور الطبقات الاجتماعية الوسطى. فهو خلافاً لما يحدث للأجور الدنيا والوسطى من ارتفاع وانخفاض، يستحيل عليه أن يسجل ارتفاعاً سريعاً بما يحققه من مكاسب". ولذلك فقد سرت النكتة الشائعة اليوم: "ما أن يدلف بيل جيتس إلى حانة ما، حتى يتحول جميع من فيها إلى مليونيرات، إلا ذوو الأجر المتوسط، فإنهم يظلون على فقرهم". ولهذا فإن المتوقع من الكونجرس "الديمقراطي" الجديد، أن يتجه إلى تبني سياسات اقتصادية أكثر ميلاً لحماية اقتصادنا القومي، بما في ذلك تقليص نطاق التجارة الحرة، واتخاذ سياسات اقتصادية ذات طابع عقابي إزاء الصين، خاصة على إثر الرقم الجديد الذي سجله فائضها التجاري في شهر أكتوبر المنصرم. وبعبارة أخرى، فإن المرجح أن تعود الصين إلى مركز اهتمامات السياسة الخارجية الأميركية مجدداً، لكونها تعكس حجم التحديات التي تواجهها العمالة الأميركية في قرننا الحادي والعشرين. وعليه فإن السؤال الأكبر في نظري، هو كيف سيوظف كل من الرئيس بوش والكونجرس "الديمقراطي" الصين في أجندتهما المتعارضة؟ وهل ستكون الصين كبش فداء، أم قمراً اصطناعياً من طراز "سبوتنيك" السوفييتي؟! ما أرمي إليه هو التساؤل: هل ستكون الصين ذريعة للافعل، أم سنتخذ منها أداة رافعة وحافزة لإحداث تغيير وإصلاحات شاملة في كافة أوجه حياتنا، مثلما فعلنا عقب تفوق السوفييت علينا، بإطلاقهم لقمر "سبوتنيك"؟ توماس فريدمان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"