الإبادة الجماعية والعجز الأممي "التواطؤ مع الشر" هو عنوان الكتاب الذي نعرضه فيما يلي، ومؤلفه هو "آدم ليبور"، مراسل صحيفتي "التايمز" و"ذي إندبندنت" البريطانيتين في يوغسلافيا، إبان فترة الحروب العرقية الطاحنة التي مرت بها منطقة البلقان في تسعينيات القرن الماضي. كما عمل مراسلاً لصحيفة "التايمز" في منطقة وسط أوروبا، لاسيما تغطيته لجلسات محكمة العدل الدولية في لاهاي المختصة بالنظر في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وفوق ذلك فهو كاتب وباحث مستقل، صدرت له خمسة كتب من قبل، بينها كتاب عن السياسة والثقافة. أما في كتابه الحالي، فيتناول جرائم الحرب والإبادة الجماعية، الممتدة من رواندا وسربرينتشا التي وقعت قبل عقد مضى، وصولاً إلى حقول الموت الدائر حتى هذه اللحظة، في إقليم دارفور السوداني. غير أن هذه المتابعة اهتمت بجانب رئيسي مهم، هو ملاحظته لعجز الأمم المتحدة المستمر عن مواجهة هذه المآسي، ووضع حد لها قبل تفاقمها واستفحالها. فكيف تأتى للمجتمع الدولي أن يقف عاجزاً مكتوف الأيدي، إزاء تلك المجازر وشلالات الدماء التي سالت في المناطق المذكورة، قبل أن يتجاوز تلكؤه ويبادر بمواجهتها ووقفها، بعد أن حصدت أرواح الآلاف؟ ومن منا يستطيع أن يمحو من ذاكرته وعينيه، مناظر الجثث التي فاضت بها مياه بحيرة فكتوريا ومنطقة البحيرات العظمى في القارة الإفريقية، جراء مذابح الإبادة الجماعية البشعة التي وقعت بين قبائل التوتسي والهوتو في رواندا؟ ومن منا يستطيع أن ينسى حقول الموت التي امتلأت بها جثث ضحايا مجزرة سربرينتشا والبوسنة والهرسك وغيرها من مناطق جمهورية يوغوسلافيا السابقة، بفعل الاعتداءات الصربية وجرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية ضد العرقية الألبانية؟ ثم انظر إلى ما يجري اليوم في إقليم دارفور السوداني، وكيف تلكأ المجتمع الدولي، في وقف ما يجري هناك من اعتداءات وجرائم قتل جماعي بحق المدنيين! فحتى الآن لم تنشأ آلية دولية أو إقليمية فاعلة وقادرة على وضع حد لهذه الجرائم، وحماية المدنيين منها، رغم استمرار الدور المتواضع والمحدود، الذي تضطلع به قوة الاتحاد الإفريقي الموجودة هناك. وإذ يتهم الصحفي والكاتب "ليبور"، الأمم المتحدة على وجه الخصوص، بهذا العجز البادي في التصدي لجرائم الإبادة الجماعية المتكررة، فإنه لا يطلق القول جزافاً، وإنما يوثق له ويثبته بالوثائق المكتوبة، وعبر اللقاءات الصحفية التي أجراها مع كبار مسؤولي المنظمة الدولية، الحاليين منهم والسابقين، إضافة إلى ما حصل عليه من معلومات، عبر لقاءاته بشخصيات دبلوماسية عالمية بارزة، من بينها مادلين أولبرايت، ورتشارد هولبروك، ودوجلاس هيرد، وديفيد أوين... إلخ. ومن بين الوثائق الرسمية التي دلّل بها الكاتب على عجز المنظمة الدولية عن القيام بمسؤولياتها وواجباتها الملقاة عليها، فيما يتصل بالتصدي لجرائم الإبادة الجماعية، وثيقة تعود إلى شهر مايو من عام 1995. في ذلك التاريخ، كان "ياسوشي أكاشي"، كبير مسؤولي الأمم المتحدة الميدانيين إبان الحروب اليوغوسلافية، قد رفض الموافقة على توجيه ضربات جوية للقوات الصربية، مخافة أن تسفر تلك الضربات عن "إضعاف" شوكة ميلوسوفيتش! ثم تكرر سلوك مشابه في عام 2003، حين تجاهلت المنظمة الدولية، سلسلة من التقارير الميدانية الطارئة، المنذرة بهول الفظائع الجارية في إقليم دارفور. والتبرير هذه المرة، أن في الإسراع باتجاه ما يحدث هناك، ما يثير الحرج السياسي. ومن هنا يعد هذا الكتاب الأول من نوعه، الذي يتناول بالتفصيل والدراسة المستفيضة، أهمية الدور الحاسم الذي يجب على مجلس الأمن الدولي أن يؤديه في مثل هذه الحالات، في مقابل عجز مسؤولي المنظمة الدولية عن وقف هذه الجرائم عملياً. وبعد تناوله لمظاهر هذا العجز وأشكاله ومسبباته، يخلص إلى استنتاج مفاده أنه على المنظمة الدولية أن تعود إلى مبادئها الرئيسية التي أقيمت من أجلها، وأن تكون بقدر مسؤولياتها الأخلاقية المنوطة بها، بما فيها تحديد أجندة عمل مجلس الأمن الدولي، بدلاً من مجرد الانسياق الأعمى لإرادة القوى الدولية المهيمنة عليه. وبما أن الدعوة لإصلاح المنظمة الدولية وإعادة هيكلتها وتأهيلها، بما يمكنها من الحفاظ على استقلاليتها والاضطلاع بدورها في مواجهة تعقيدات وتحديات القرن الحادي والعشرين، قد تضمن الأخذ بمثل هذه الانتقادات الحادة الموجهة إليها مؤخراً، فإن مما لاشك فيه، أن ما أثاره المؤلف هنا من ملاحظات وانتقادات لأداء المنظمة في مجال التصدي لجرائم الحرب والإبادة الجماعية، سوف يشكل مادة رئيسية للحوار المتوقع داخل المنظمة، على إثر تسلم أمينها العام الجديد لمسؤولياته، خلفاً لأمينها العام الحالي كوفي عنان. ذلك أن من الطبيعي والمتوقع، أن تقيّم الأمم المتحدة تركة كوفي عنان ودوره في قيادتها، إلى جانب النظر إلى دورها المستقبلي، في مرحلة ما بعد عنان. وإلى أن يحدث ذلك، فليس أكثر إلحاحاً وإثارة لحرج المنظمة الدولية، من استمرار الفرجة وفقدان الحيلة إزاء ما يجري من جرائم وفظائع بحق الإنسانية، في أنحاء متفرقة من العالم اليوم. عبد الجبار عبد الله الكتاب: التواطؤ مع الشر: الأمم المتحدة وعصر الإبادة الجماعية المؤلف: آدم ليبور الناشر: بارنيس آند نوبل للنشر تاريخ النشر: 2006