يتنفس الأميركيون الصعداء الآن بعد أن فاز "الديمقراطيون" بالأغلبية في الكونجرس بمجلسيه، وأقال بوش وزير دفاعه "الصقر" دونالد رامسفيلد. وفي داخل أميركا وخارجها تثور في الوقت الراهن توقعات بأن تحول ميزان القوى في الكونجرس لصالح "الديمقراطيين"، سيؤدي إلى كبح جماع إدارة بوش، واستعادة الوسطية والاعتدال والبراجماتية للسياسة الخارجية الأميركية. في ظني أن ذلك لن يحدث بهذه السرعة. صحيح أن الرئيس بوش يطلق نداءات عديدة داعياً فيها إلى الحاجة إلى التعاون والتوافق بين الحزبين، وصحيح أيضاً أن رحيل رامسفيلد سيؤدي إلى إعادة تركيز "البنتاجون" على المسائل الدفاعية البحتة فقط، وصحيح كذلك أن سيطرة "الديمقراطيين" على الكونجرس بمجلسيه ستحد من قدرة بوش على المناورة، إلا أن التوقعات بحدوث تغيير كامل في مجال السياسة الخارجية ليست إلا مجرد أوهام. وليس هذا فحسب، بل إن فرصة استمرار هذه السياسات ستكون في الحقيقة أكبر من فرصة تغييرها. بالطبع سيحاول "الديمقراطيون" إجراء تغيير في السياسة الخارجية للولايات المتحدة على الرغم من أن سيطرتهم على الكونجرس بمجلسيه لا تمنحهم السلطة أو الصلاحية التي تمكنهم من أن يفعلوا ما يريدونه. ويرجع ذلك إلى حقيقة أن دستور الولايات المتحدة يمنح من يشغل منصب الرئيس صلاحيات واسعة فيما يتعلق بالبت في مسائل الحرب والسلام، ولا يترك للكونجرس مجالاً للمناورة يمكنه من أن يملي على الرئيس السياسة الخارجية التي يجب عليه أن يتبعها. وعلى الرغم من أن الكونجرس يتحكم في الشؤون المالية إلا أن القادة "الديمقراطيين" في الكونجرس يعرفون أنهم سيقدمون على انتحار سياسي وأخلاقي، إذا ما سعوا إلى إجبار القوات الأميركية الموجودة في العراق على الانسحاب من هناك من خلال قطع التمويل عنها، ناهيك عن أن مثل هذا التصرف سيتيح الفرصة لـ"الجمهوريين" لتحميل مسؤولية الإخفاق في العراق لـ"الديمقراطيين". يجب علينا أن نتذكر هنا أن بوش قد تجاهل آراء الكونجرس بشأن العراق، وبشأن معاملة المعتقلين، وبشأن معظم مسائل الأمن القومي الأخرى حتى عندما كان واقعاً تحت سيطرة "الجمهوريين". وليس هناك من الأسباب ما يدفع للاعتقاد بأن بوش سيبدي المزيد من الاهتمام بآراء الكونجرس بعد أن أصبح "الديمقراطيون" يتحكمون فيه. علاوة على ذلك فإن الفوضى في صفوف "الديمقراطيين" ستجعل بوش أكثر قدرة على تجاوز معارضتهم في الكونجرس. وفي الحقيقة أن النتائج الجيدة التي حققها "الديمقراطيون" في تلك الانتخابات ترجع لسبب رئيس هو عدم رضا الناخبين عن حرب العراق، وليس لأن الحزب قدم قائمة عريضة من البدائل الجذابة والمُقنعة. والحقيقة أن "الديمقراطيين" يعانون من انقسام عميق بشأن النهج الأمثل الذي يمكن اتباعه في العراق: فالبعض منهم يدعون إلى الانسحاب وفقاً لجدول زمني، والبعض الآخر يدعو إلى تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق، والبعض منهم يؤيد سياسة بوش. ونفس هذا الانقسام يميز مواقفهم بشأن سياسة بلادهم تجاه إيران وتجاه كوريا الشمالية. وعلى الرغم من أن "الديمقراطيين" بمفردهم لن يكونوا قادرين على كبح جماح إدارة بوش إلا أن العديد من المراقبين يتنبأون بظهور تيار وسطي مكون من أعضاء الحزبين سيساعد على فطام البيت الأبيض عن اليمين المتصلب. وهم يستندون في توقعاتهم إلى أن السنتين اللتين مضتا واللتين تميزتا بالانقسام ستجبران "الديمقراطيين" و"الجمهوريين" على العمل معا وتخفيف حدة الاستقطاب الذي ساد خلال السنوات الست الماضية. ومن المتوقع أن يطالب "الديمقراطيون" بإجراء عدد من التحقيقات الرسمية في الطريقة التي تعاملت بها إدارة بوش مع موضوع العراق منذ بدايته، وكذلك في عدد كبير من الفضائح الفساد التي ارتبطت بذلك، وهو ما يؤشر إلى أن المناخ السياسي في واشنطن سينتقل من حالة الاستقطاب التي كان عليها إلى مناخ آخر مُسمم بمشاعر الضغينة والتشويه المتبادل للسمعة، والذي بدأت بشائره قبل الانتخابات الأخيرة. ومن المتوقع أيضاً أن تزداد الهوة الإيديولوجية بين "الجمهوريين" و"الديمقراطيين" اتساعاً بدلاً من أن تضيق، وخصوصاً بعد أن أطاحت الانتخابات الأخيرة بعدد كبير من "الجمهوريين" المعتدلين -الذين تحول الجمهور في دوائرهم إلى المرشحين "الديمقراطيين"- وهو ما يؤشر إلى أن "الجمهوريين" في الكونجرس سيتجهون أكثر ناحية اليمين بعد أن حرموا من العديد من العناصر المعتدلة التي كانت تحول دون ذلك. أما "الديمقراطيون" فإن نتائج الانتخابات ستؤدي إلى تعزيز وضع الجناح الأكثر ليبرالية داخل حزبهم. وعلى الرغم من أن عدداً من المسؤولين "الديمقراطيين" الذين يتأهبون حالياً لتولي مناصبهم الجديدة في الكونجرس من التيار الوسطي في الحزب، إلا أن المرجح هو أن القيادات بدءاً من "نانسي بيلوسي" المتوقع توليها لمنصب رئيسة مجلس النواب، وحتى الشخصيات التي ستتولى رئاسة لجان الكونجرس، ستنجذب يساراً تحت ضغط دوائرها الانتخابية. وهذا يجعلنا نقول إنه لن تكون هناك سوى أرضية مشتركة محدودة -إذا ما وجدت هذه الأرضية أصلاً بين القيادة "الديمقراطية" ونظيرتها "الجمهورية"- ولا يوجد أمل كبير -على الرغم من توقعات المراقبين- في عودة الوسط المكون من الحزبين سواء من ناحية الروح أو من ناحية الجوهر. ووسط المواجهات السياسية المتوقع حدوثها عندما يفتتح الكونجرس جلساته في يناير القادم، فإن الأمر المرجح هو أن يتمكن "الديمقراطيون" من فرض التغيير على إدارة بوش في الأجندة الداخلية التي بدأ الوقود ينفد منها قبل الانتخابات الأخيرة بوقت طويل. أما فيما يتعلق بصياغة السياسات الخارجية لإدارة بوش التي كانت سبباً في تحول الناخبين إلى "الديمقراطيين" فإنه ليس مرجحاً أن يكون لديهم تأثير عليها. أما فيما يتعلق بإدارة الدولة فإن المقدر هو أن يظل بوش هو سيد قراره خلال السنتين القادمتين أيضاً. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تشارلز آيه. كبتشان أستاذ الشؤون الدولية في جامعة جورج تاون بيتر إل. ترابوفيتز أستاذ نظم الحكم في جامعة تكساس- أوستن ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"