عشية السادس عشر من أكتوبر 2005 كنت جالساً أمام شاشة ضخمة في إحدى قاعات الجامعة التي أعمل بها لمشاهدة نتائج أول تصويت حقيقي في العالم يتم عبر الإنترنت في بلدي إستونيا (دولة صغيرة في شرق أوروبا مطلة على بحر البلطيق). بدأت الأرقام تنهمر تدريجياً على الشاشة على شكل مصفوفات وجداول وأعمدة وإحصاءات، فبدا الأمر محيِّراً حتى جاهر بعض المراقبين من زملائي بعدم رضاهم قائلين إنه من الصعب على أحد أن يفهم ما تعنيه تلك الأرقام. كان هذا هو موقفهم في البداية، ولكن بعد أن انتهى عد الأصوات إليكترونياً وأمكن فهم مغزى تلك الأرقام، فإن الكثيرين رأوا أن تلك الانتخابات التي كانت أول انتخابات محلية تتم اليكترونياً عبر الإنترنت في البلاد قد نجحت نجاحاً فائقاً. وهذه الانتخابات الإليكترونية أكدت ريادة إستونيا في المجال الإليكتروني كما قدمت للعالم- وهذا هو الأهم- لمحة عما ستكون عليه صورة الانتخابات في المستقبل. يمكن القول إذن إن تلك الانتخابات كانت بمثابة رسالة عن مستقبل الانتخابات، وإنه ليس هناك ما يدعو للدهشة من أن أول انتخابات إليكترونية قد أقيمت في إستونيا دون غيرها. فهذه الدولة البلطيقية الصغيرة التي لا يزيد عدد سكانها على 1,4 مليون نسمة، والتي كانت قد ضُمت بقسوة لروسيا قبل أن تستعيد استقلالها عقب سقوط الاتحاد السوفييتي السابق انطلقت في طريقها، وتمكنت من أن تصنع لنفسها مكانة متميزة، وأن تتحول إلى دولة رائدة ضمن رواد التقنية الإليكترونية في العالم، وذلك في كل مجال تقريباً مثل التعليم الإليكتروني والحكومة الإليكترونية والتجارة الإليكترونية وأخيراً الانتخابات الإليكترونية والذي ساعد إستونيا على ذلك هو أنها تمتلك بعض الإمكانيات العملية لعملية التصويت الإليكتروني؛ فالمواطنون الإستونيون يحملون معهم بطاقات هوية تعمل بنظام الشرائح الإليكترونية، تشتمل على توقيعات إليكترونية بحيث يمكن التعرف عليهم من دون أي قدر من الالتباس على الخط بعد أن يقوموا بدخول الموقع المخصص للتصويت ويتبعوا الإرشادات المبينة فيه. وعلى الرغم من النجاح الذي حققته هذه التجربة الانتخابية الإليكترونية، فإنها لم تحظَ مع ذلك بموافقة إجماعية وخصوصاً من الأحزاب. فالأحزاب التي يتكون معظم المنتسبين إليها من الشباب العصري الذي يسكن المدن ويستخدم الإنترنت مثل "حزب أرض الوطن" و"حزب الإصلاح"، وهذه الأحزاب تميل إلى التجديد والإبداع حبذت تلك التجربة. أما الأحزاب التي تعتمد على قاعدة من الجماهير الأكبر سناً والأقل دخلاً، والتي تأثرت سلباً جراء التغييرات التي تم إدخالها في البلاد عقب سقوط الاتحاد السوفييتي مثل "حزب الاتحاد الشعبي" فلم تحبذها. في الانتخابات التي أجريت عام 2005 تم اتباع نظامين في التصويت في نفس الوقت هما النظام الإلكتروني والنظام التقليدي عن طريق البطاقات الورقية. ولتأكيد المصداقية ولتجنب حدوث أي تلاعب طُلب ممن أدلوا بأصواتهم إليكترونياً أن يقوموا فيما بعد بالإدلاء بها بالطريقة التقليدية. لا يوجد دليل على أن التصويت الإليكتروني قد أدى إلى زيادة عدد المشتركين في الانتخابات في إستونيا، وهو ما يرجع في رأيي إلى حقيقة أن المصوت على الإنترنت هو شخص تحركه دوافع سياسية معينة، ويمتلك وصلة إنترنت، ففضل أن يدلي بصوته على الإنترنت. ولكنه كان سيذهب إلى صناديق الاقتراع على أي حال إذا لم تتوافر له هذه الوسيلة. غير أن هذا لا ينفي أن الانتخابات الإليكترونية التي جرت العام الماضي، كانت لها بعض المدلولات السياسية: فحزب "الإصلاح" المكون من أعضاء من الذين يجيدون استخدام الإنترنت حصل في التصويت الإليكتروني على 32,7 في المئة من مجموع الأصوات، وكان أداؤه فيها أفضل من أدائه في التصويت بالطريقة التقليدية التي لم يحصل منها سوى على 16.9 في المئة. أما الأحزاب "الأقل صداقة للإنترنت"، فقد كان أداؤها أفضل في التصويت التقليدي حيث حقق حزب "الوسط" 25.5 في المئة من مجموع الأصوات بالطريقة التقليدية في حين لم يحقق سوى 8.7 في المئة من مجموع الأصوات الإليكترونية. علاوة على ذلك لعبت الحواجز الثقافية وحاجز اللغة دوراً في تحديد النتيجة العامة للانتخابات: فالأقلية الروسية في إستونيا والتي يصل تعدادها إلى ربع العدد الإجمالي للسكان، والتي تجد صعوبة في قراءة اللغة الإستونية لم تقدم على التصويت إليكترونياً لتلك الأسباب. والانتخابات التي حدثت في إستونيا عانت من عقبة فنية واحدة وهي أن بطاقة الهوية لم تكن كافية في حد ذاتها، وإنما كان يتعين على حامليها أن يقوموا بإثبات أنها أصلية. وكانوا مضطرين في سبيل ذلك إلى استخدام برنامج إليكتروني قارئ تصل تكلفته تقريباً إلى 15 دولاراً وجد الكثيرون صعوبة في تركيبه واستخدامه. ومن المقرر أن تتم انتخابات إستونيا البرلمانية للعام القادم بالطريقتين الإليكترونية والتقليدية معاً. ويأمل محبذو التجربة الجديدة الإليكترونية أن يشارك عدد أكبر من الأشخاص في الانتخابات الإليكترونية القادمة، من خلال اجتذاب أشخاص للانتخابات ممن كانوا لا يشاركون فيها من قبل. وليس لدي شك في أن الكثير من دول العالم ستحذو حذو إستونيا في التصويت الإليكتروني، لأن ذلك في رأيي يمثل مستقبل الانتخابات، وبالتالي مستقبل السياسة، وذلك على الرغم من الصيحات التي يروجها البعض من أن التصويت الإليكتروني يشكل خطراً على الشرعية السياسية. فحتى لو كان ذلك حقيقياً، فإنه في النهاية أمر يمكن علاجه وإيجاد مخرج له، ولا يجب بأي حال من الأحوال أن يقف حجر عثرة في سبيل هذه التجربة الرائدة. ـــــــــــــــــــــــــــ وولفجانج دريشلر أستاذ نظم الحكم في جامعة "تالين" للتكنولوجيا– إستونيا ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"