تساؤلات حارة وحائرة يطرحها بعض المثقفين العرب، وأهمها: أين يكمن الخطر الذي ينبغي أن تتنبه له الأمة أكثر من سواه؟ أهو من الغرب الذي تسيطر أساطيله على كل بحار العرب ومنافذها؟ أم هو من مركز القلب من جسد الأمة وقد استبدّ به داء عضال خبيث اسمه إسرائيل؟ أم هو من الشرق حيث تطمح إيران إلى أن تصبح قوة إقليمية ودولة قوية الذراع؟ ولا يخفى على المثقفين العرب أن تنوع الأخطار التي تحيط بأمتهم هو نتاج الوهن المريع الذي أصاب جسد الأمة حتى بدت عجوزاً غير قادرة على الحراك، وباتت ثرواتها نهباً، وكرامتها مهانة، وقد استبيحت في حالة مرضية "مازوخية" حين أسهم بعض العرب في جلب المآسي لأمتهم، وحسبُنا نموذجاً منهم "صدام" الذي دمر الأمة مرات كان أخطرها حين لبى رغبة الأميركان فشنّ حرباً "عربية" ضد إيران.. ثم حين أوحى له من أوحى بأن يغزو الكويت لإيجاد ذريعة لتمركز قوى الغرب في أرضنا العربية ولإعطاء المبرر للولايات المتحدة بأن تنشر قواعدها التدميرية في شرايين الأمة. وكان ظهر الأمة قد انقصم منذ أن تمكن الإسرائيليون من فرض الحلول السلمية الجزئية، فتشرذمت الأمة حين صار بعضها صديقاً لإسرائيل لا يمكن أن يستنكر جرائمها حتى وهي تقصف فلسطين ولبنان وتقتل وتدمر وتبيد، وقوى الأمة الساكنة تتفرج، وحسبها أداء أضعف الإيمان حين تقدم المساعدات لتسهم في ترميم بعض ما تدمره إسرائيل. أما بعض العرب الآخر فقد استفردت بهم الولايات المتحدة وإسرائيل وباتت تحاصرهم ليل نهار، وترفض السلام الذي جعلته الأمة في مبادرتها الشهيرة الأخيرة مفتوحاً بلا سقف ولا أمد، مما شجع إسرائيل على مزيد من الاستهانة، بل وصلت الوقاحة بقادتها أنهم باتوا يشكرون بعض الدول العربية على دعمها لهم وهي تقصف لبنان وفلسطين، لتوقع مزيداً من الفتنة بين العرب. لكن المفاجأة الكبرى التي أذهلت الغرب كله، أن هذه الأمة العربية التي يشكو أهلها من ضعفها وهوانها، أخرجت من تحت الرماد قوى لا يستهان بها، شكلت ممانعة ومقاومة عجزت عن إخضاعها الولايات المتحدة وهي أعظم قوة ضاربة في العالم، وقد تمكنت هذه المقاومة من أن تحظى بتأييد شعبي عالمي في الانتفاضة الفلسطينية المباركة التي صمدت رغم كل أنواع الوحشية التي استخدمها شارون. وقد حاولت إسرائيل أن تشوه المقاومة وأن تصورها على أنها إرهاب، وبذلت الولايات المتحدة جهداً ضخماً لتشويه المقاومة العراقية في العراق، ودست من يرتكب الجرائم الإرهابية "حقاً" باسم المقاومة العراقية، ولكنها اليوم تعلن عجزها وتحاول تغطية فشلها بتصوير ما يحدث في العراق على أنه حرب أهلية بين شيعة وسُنة، وبين عرب وأكراد. ويبدو أن الولايات المتحدة العازمة على مزيد من تفتيت الأمة العربية وشرذمتها، وجدت أن قواها العسكرية على ضخامتها، غير قادرة على فرض مشروعها التدميري المسمى "الشرق الأوسط الكبير" الذي تحلم بأن تكون إسرائيل أعظم دولة فيه، فلجأت إلى تنشيط الميكروبات الكامنة داخل الجسد العربي، فباتت تضرب بقوة على أوتار الطائفية الدينية والإثنية العرقية، وهدفها الواضح هو نشر الحروب الأهلية في أقطار الوطن العربي، حتى إذا ما تحول هذا الشرق العربي إلى بحر دماء، باتت إسرائيل فيه آمنة مطمئنة يستقوي بها المتحاربون ويشترون منها السلاح كي يقتل بعضهم بعضاً. ولكي تزيد بلاء الأمة، أثارت فينا اختلافاً عجيباً حين يطرح بعض المثقفين سؤالاً مدهشاً: "من عدونا"؟ والهدف الواضح أن نلتفت إلى عدو نصنعه بأنفسنا حين نصرُّ على أنه عدو، فيرتاح العدو الإسرائيلي الذي يطمح إلى تحالف مع العرب ضد إيران المسلمة، ولم يعد بعيداً أن يتوهم بعض العرب أن تكون دولة عربية ما عدواً آخر لهم إذا قررت الولايات المتحدة أنها واحدة من دول الشر التي تزعج إسرائيل أو تهدد مشروعها الصهيوني. إنني واثق من أن المثقفين العرب يتفقون جميعاً على أن الأمة العربية ليست بحاجة إلى صنع أعداء جدد، وإذا كنت أتفهم قلق بعض دول الخليج العربي من أن تصير إيران الدولة الجارة المتاخمة (وقد خاض بعض العرب ضدها حرباً في الثمانينيات) ولها أشياع بين العرب المسلمين، فإنني أجد دواء هذا القلق في الضغط على الولايات المتحدة وعلى الغرب كله، كي يجبر إسرائيل أولاً على نزع ترسانتها النووية التي تهدد العالم كله وعلى رأسه أوروبا التي كشفت شعوبها عن قلقها من أسلحة التدمير الإسرائيلية حين صوتت في استطلاع أوروبي شهير على أن إسرائيل خطر على الأمن والسلام العالمي. إننا نريد شرقنا العربي والإسلامي خالياً تماماً من كل أسلحة التدمير، ولكن إصرار إسرائيل على تطوير قدراتها النووية يجعلنا نجد الحق لأمتنا وللأمم التي تخشى على نفسها من ترسانة إسرائيل النووية، بأن تفكر بالردع وبالتوازن العسكري والدفاع عن النفس. إن علينا جميعاً أن نعمل لإخلاء المنطقة كلها من أسلحة التدمير، فإن لم نستطع ذلك فعلى الأمة العربية أن تفكر كذلك وأن تسعى لامتلاك قوة ردع، ولن يكون العرب حين يجتمعون بما يملكون من قوى علمية وإبداعية ومالية، أقلّ قدرة من إيران أو باكستان أو الهند. ولئن كان بعض أشقائنا المثقفين ينتقدون من لا يقدّر أخطار إيران على العرب، فإننا نرجوهم ألا يضخموا المشكلة، وألا يقطعوا الجسور المتينة التي تصل بين العرب وإيران، ونرجوهم أن يعملوا على إحياء المشروع العربي وعلى إحياء مفهوم الأمن العربي، فخواء أمتنا من مشروع تلتف حوله يجعلها مسرحاً لمشاريع الآخرين، وأخطر ما تواجهه الأمة هو المشروع الصهيوني. ونحن في سوريا لا نتحالف إلا مع أمتنا، ولكننا نريد أن تكون دول الجوار وأخص إيران وتركيا، عوناً لنا، وبيننا وبين شعوبها صلات قربى دينية وثقافية وتاريخية، تشكّل بنية قوية ينهض عليها التعاون الذي نطمح أن يزداد لصالح شعوبنا جميعاً، ولطرد الغزاة والمحتلين، ولإرغام إسرائيل على أن تكف عن عدوانها، وأن تلتزم بمبادئ الأمم المتحدة، وأن تقبل بالسلام الشامل والعادل الذي ما يزال مطلبنا رغم إصرار إسرائيل على الحروب، الأمر الذي يدعونا إلى مزيد من التمسك بمشروع المقاومة، لأن إفلات هذا المشروع يعني الهزيمة والخروج النهائي من التاريخ.