إنها لرسالة أو مقالة عسيرة، أن يوجهها المرء لإخوته الفلسطينيين. إلا أنني أعتقد أنه من أوجب واجبات كل وطني عربي غيور، أن يقدِّم نصيحة كهذه لإخوته في هذا الوقت بالذات. ومن هنا أقول: إخوتي الفلسطينيين، هذه هي المرة الثانية التي أقرأ فيها خلال هذا الأسبوع، دعوة رئيس وزرائكم إسماعيل هنية للدول العربية كي تستثمر أموالها في قطاع غزة. وهو يفعل هذا في وقت لا تزال تواصل فيه مليشياته المسلحة، إطلاق صواريخها على إسرائيل، إلى جانب مواصلتها التوعد والتعهد بتحرير كل شبر فلسطيني محتل، بقوة السلاح، مع أن هذا النوع من التعهد هو الذي يدفع إسرائيل إلى غزو غزة، وتدمير كل ما تم بناؤه هناك، مرة وراء أخرى. ولذلك فقد آن لكم أن تفكِّروا فيما تفعله بكم هذه التنظيمات، بما فيها حركتا "حماس" و"فتح"، وليس في ما تقوم به من أجلكم. كما يلزمكم التفكير والتأمل، فيما لو أردتم الاستمرار في الانقياد الأعمى لها؟ وإلى ذلك تصلون لتوجيه السؤال التالي لأنفسكم: من الذي يقف إلى جانبنا بحق؟ وفيما لو صدقتم السيرة والقول، فإن الإجابة العامة المشتركة عن هذه الأسئلة مجتمعة، هي أن زمن القوة والحرب على إسرائيل قد ولى، وإنكم قد خسرتم حربكم عليها، بينما كان الفوز لصالحها هي. ولذلك فقد آن لكم الكف عن خوضها ومحاولة إشعال نيرانها مجدداً. وفيما لو حرصتم على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أراضيكم وحقوقكم، فإنه لابد لكم من الاعتراف بعلة ثقافة "الكفاح الأزلي" وهي البضاعة البائرة التي يروج لها الأصوليون، لكونها لم تعد ذات قيمة كما لم يعد من ورائها طائل. ومما لاشك فيه أن أطفالكم يتطلعون إلى مستقبل هو أفضل بالضرورة من ثقافة الانتحار والاستشهاد، وغيرهما من منتجات العنف التي تبشر بها حركة "حماس" وما شابهها من تنظيمات أصولية. ولكي أصارحكم وأصدقكم القول، فإن عليكم أن تفاوضوا من موقع الضعف والوهن، بمساعدة الغرب وبعض الدول العربية، مثل مصر والأردن. وبذلك وحده، تستطيعون تأمين حياتكم، وحفظ ما تبقى لكم من كرامة، إلى جانب فتحكم كوة للأمل والمستقبل، يستطيع أبناؤكم وأبناء أبنائكم، التطلع منها إلى حياة أفضل. أقول هذا وأنا أعلم علم اليقين، أن من بينكم من سيرد عليَّ حانقاً وغاضباً، متهماً إياي بكل ما جادت به القريحة. ولكن ماذا بعد الاتهام والسباب؟ وإذا ما تأملنا الجبهة العربية اليوم، فإن علينا الإقرار بالحقائق المريرة التالية. فنحن إخوتكم العرب، نقول لكم مراراً وتكراراً إننا نقف إلى جانبكم. ولكن انظروا إلينا، هل نقدم لكم شيئاً ملموساً سوى حلو الكلام ومعسول اللسان؟ ولاشك أن العاقلين منكم يدركون أن بقية العالم العربي قد واصل مسيرته غير آبه بكم، ولا بثباتكم على ما أنتم فيه. فالكثيرون في هذا العالم ينشغلون اليوم بحصد مزيد من الأموال، وبيع مزيد من النفط، وبناء المزيد من مرافق البنية التحتية، كالمدارس والمصانع وما إليها. أما حين نبدي قلقنا ومخاوفنا نحن العرب، فإننا لا نبديها بسبب فلسطين، وإنما مخافة ما يحدث الآن في العراق وإيران. ولتعلموا الآن أنه ما من شيء ينبئ بتغيير هذا الواقع. فما من أمة عربية واحدة، سترسل "جيشاً عربياً" لمحاربة إسرائيل، نيابة عن الفلسطينيين أصحاب الأرض المحتلة. فتلك حقبة ولَّت مرة واحدة وإلى الأبد، من غير رجعة. ولتذكروا أصدقائي، أنتم وقادتكم بمن فيهم زعيمكم الراحل ياسر عرفات، أنكم أضعتم حياة ثلاثة أجيال منكم، في التمسك بخوض الحرب من أجل تحرير فلسطين. غير أن الحقيقة هي أن تلك الـ"فلسطين" التي كان في وسعكم الحصول عليها في عام 1948، هي أكبر بما لا يقاس، من فلسطين التي كان ممكناً لكم الحصول عليها في عام 1967. ثم يجب القول إن هذه الـ"فلسطين" الأخيرة، هي أكبر بما لا يقاس، من أي فلسطين مضاعة، سوف تحصلون عليها اليوم، أو خلال السنوات العشر المقبلة. إذن فاستمرار الكفاح لا يعني شيئاً آخر سوى القليل من الأرض، مقابل مزيد من البؤس والمعاناة والعزلة. لذا إخوتي، فإن الذي في مقدوركم الحصول عليه الآن، هو ما يرمز إلى الدولة الفلسطينية التي في وسعكم إقامتها في شريط حدودي ضيق، أشبه بشرائح السردين الصغيرة، في قطاع غزة، وربما في شريحة ضيقة أخرى في الضفة الغربية من نهر الأردن. ولتدركوا أن نصيبكم من هذه الدولة الرمزية، لن يكون أفضل حالاً مما وصفنا بأية حال. ولتنظروا جيداً إلى واقعكم العيني: فصغاركم وصبيتكم، يشبون على الأمية والجهل والمرض، وعمى ثقافة الموت والاستشهاد والانتحار. وفي الوقت ذاته، لا حياة لفلسطين اليوم، إلا على عطف وعطايا الآخرين، بما فيها عطايا الأميركيين وبعض الدول العربية والأمم المتحدة. وهذه مناسبة لتسألوا أنفسكم كما يلي: هل يطعم القذافي أولادكم وبناتكم؟ وهل يفعل ذلك بشار الأسد؟ ثم أين فارسكم وحامي حماكم صدام حسين؟ أما حركة "حماس" ومنظمتا "الجهاد الإسلامي" و"فتح"... وما إليها من حركات إسلامية، فقد برهنت على عجزها عن تغيير هذا المنحى وعن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. بعبارة أخرى، عليكم أن تدركوا أصدقائي الفلسطينيين، أنكم أسرى هوة عميقة، وأنه ما من شيء حولكم سوى الفراغ والعزلة، وأنه ما من شيء خلفكم وأمامكم، سوى مشهد محترق، وأرض متلاشية يوماً إثر يوم. فأي كفاح هذا؟ بل والأهم من ذلك: أي مستقبل تعيس أغبر، يبشر به هذا الكفاح أطفالكم، أي أبناء الجيل الرابع من عالم الفقر والحرمان العربي؟ وإذا كان لبقية أنحاء العالم العربي الأخرى، نفطها وزراعتها وصناعتها وتجارتها، فماذا لكم أنتم إخوتي الفلسطينيين؟ لا شيء... لا شيء. ثم انظروا إلى أين يتجه العرب الآخرون؟ إنهم ينشغلون بجمع الأموال وبناء مزيد من المنازل وتطوير المشروعات الترفيهية، وبإقامة الجامعات والمدارس وتعبيد الطرق السريعة منها والجانبية. أما مصر والأردن المجاورتان لإسرائيل، فقد أبرمتا معها اتفاقيتي سلام، وضعت حداً نهائياً لخوض الحرب ضدها. إذن فليس سوى سوريا وإيران وحدهما اللتان تحضانكم على مواصلة الحرب والكفاح ضد إسرائيل. ولكن أين هما هاتان الدولتان المحرضتان؟ فهضبة الجولان السورية لا تزال تحت الاحتلال الإسرائيلي... فهل رأيتم سوريا وهي تخوض حرباً من أجل تحرير أراضيها المغتصبة؟ لقد حان الوقت كي تفيقوا إخوتي، وتدركوا أن سوريا وإيران، تسعدان بخوض حرب خفية بدمائكم، حتى سقوط آخر فلسطيني منكم، فهل هذا ما ترضونه لأنفسكم؟