هناك مقولة أساسية في العلم الاجتماعي مبناها أن كل مشروع سياسي هو مشروع ثقافي، وكل مشروع ثقافي هو في الواقع مشروع سياسي في نفس الوقت! ومنطق هذه المقولة أن السياسة ليست نسقاً مغلقاً على عدد من المبادئ التي تحكم العلاقات بين الدولة والمجتمع، أو بين الدول ودول أخرى، ولكنها في المقام الأول لابد لها أن تنهض على مجموعة من القيم الثقافية المتسقة، والتي ليس بينها تناقض. وعلى ذلك إذا أعلنت السياسة الأميركية أنها المدافعة الأولى في العالم عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ثم نجد في التطبيق أن خطابها الدعائي الزاعق يتناقض مع ممارساتها الواقعية كما هو الحال في سجن أبو غريب حيث خرقت حقوق الإنسان، أو كما حدث في التشريع الذي أقره الكونجرس مؤخراً بجواز تعذيب المتهمين بالإرهاب لاستنطاقهم، فمعنى ذلك كله تناقض صارخ بين السياسة الأميركية والقيم الثقافية التي تزعم أنها تقوم على أساسها. ومن ناحية أخرى فأي مشروع ثقافي هو مشروع سياسي في نفس الوقت. وعلى ذلك فحين تحدثنا في مقالاتنا الماضية عن ثقافة السلام في زمن الصراع، وعن رؤية عربية لثقافة السلام، كنا نثير –بالإضافة إلى القيم الثقافية- مشروعاً سياسياً متكاملاً يقوم في الأساس على تجنب الحرب ونبذ العدوان، والتركيز على الوسائل السلمية لحل الصراعات بين الدول. ومن هنا يمكن أن نستخلص نتيجة بالغة الأهمية مبناها أن ثقافة السلام لن يتاح لها أن ترسخ قواعدها، وأن تغير اتجاهات وسلوكيات البشر إذا ظلت الهيمنة مسيطرة على السياق الدولي وعلى المناخ الثقافي العالمي. وبالرغم من أن الهيمنة مفهوم قديم في أدبيات العلوم السياسية والاجتماعية لأنه يعني سيطرة طرف أقوى على أطراف أضعف، سواء كانت سيطرة عسكرية أو اقتصادية أو ثقافية، إلا أن هذا المفهوم اكتسب معاني جديدة في ظل الهيمنة الأميركية. وهذه الهيمنة الأميركية لم تتضح أبعادها الكونية إلا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة. وذلك لأن النظام الثنائي القطبية قد انهار بحكم انهيار أحد أقطابه ونعني الاتحاد السوفييتي، وبرز النظام الأحادي القطبية الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة الأميركية منفردة، بحكم تقدمها العسكري ومبادراتها التكنولوجية واقتصادها القوي وقوتها المعرفية. غير أن خطورة الهيمنة الأميركية وتهديدها للسلام العالمي لم تظهر واضحة جلية إلا بعد الأحداث الإرهابية في سبتمبر 11/9، بعد أن أعلن الرئيس بوش حربه ضد الإرهاب، والتي –هي بحسب تعريفه- حرب تشمل الكون كله وتستمر إلى الأبد! وفي هذا السياق رفع الرئيس الأميركي شعار من ليس معنا فهو ضدنا! وبدأت الحرب ضد الإرهاب بغزو أفغانستان، ثم الغزو العسكري للعراق، وفي القائمة كانت عدة دول مهددة وهي التي تمثل "محور الشر" –حسب التعبير الأميركي. وبمناسبة مرور خمس سنوات على الحوادث الإرهابية في سبتمبر نشرت تقييمات متعددة من قبل دوائر استراتيجية أميركية وغربية وعربية. وقد عرضنا من قبل لبعض التقييمات الاستراتيجية الأميركية التي ذهبت إلى أن السياسة الأميركية وخصوصاً في العراق قد فشلت فشلاً ذريعاً، على المستوى الاستراتيجي والتكتيكي على السواء. هكذا تكلم "أنتوني كوردزمان" الخبير الاستراتيجي الأميركي المرموق. ولكن حين يتحدث خبير استراتيجي من خبراء المؤسسة الأميركية الرسمية وهو "ريتشارد هاس" في مقاله المنشور في العدد الأخير من مجلة الشؤون الخارجية "عن نهاية الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط"، ينبغي أن نتوقف طويلاً أمام أطروحته الرئيسية وأطروحاته الثانوية. ويرجع ذلك إلى أنه يكاد يكون أول تقييم شبه رسمي للاستراتيجية الأميركية، وخصوصاً بعد خمس سنوات لأحداث سبتمبر، يقرر ليس فقط فشل السياسة الأميركية، ولكن نهاية عصر الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط. ونحن نعرف أن الولايات المتحدة الأميركية وضعت خطتها مبكراً للغاية للهيمنة على الشرق الأوسط بغية تأمين وصول النفط العربي إليها، وذلك بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة عام 1945. ولذلك سعت بصورة منهجية لكي تحل محل الإمبراطورية البريطانية التي غربت عنها الشمس وسقطت في مهاوي النسيان بعد أن استقلت الدول التي كانت تستعمرها أو تحتلها. ولذلك حين يقرر "ريتشارد هاس" أن الولايات المتحدة الأميركية ستنسحب من منطقة الشرق الأوسط، وأنها وغيرها من الفاعلين الخارجيين عن المنطقة لن يكون لهم دور مؤثر أو حاسم في رسم صورة المستقبل، وأن الفاعلين المحليين الراديكاليين هم الذين سيقومون بعملية التغيير، فإن هذه أحكام تحتاج إلى مناقشات تفصيلية. وأياً ما كان الأمر، وبعيداً عن مقالة "ريتشارد هاس" بالغة الأهمية، فإن موضوع الهيمنة الأميركية من حيث نشأتها التاريخية ومنطقها الكامن ووضعها الراهن ومستقبلها في المدى المتوسط، تحتاج إلى دراسات تفصيلية. وهناك دراسة مهمة للمفكر الصيني "وانج جيسي" مدير معهد الدراسات الأميركية في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية نشرها عام 2005 بعنوان "منطق الهيمنة الأميركية". وهذا المفكر الصيني المرموق أثار لأول مرة كون الديمقراطية الأميركية في داخل أميركا والتغيرات التي لحقت بها، قد رسخت موقع الولايات المتحدة باعتبارها دولة مهيمنة hegemon، كما أنها في نفس الوقت أثرت دائرة الأفكار الخاصة بالهيمنة. ومن الناحية التاريخية يمكن القول إن الديمقراطية الأميركية كانت ديمقراطية من أجل الذكور الأميركيين البيض. وفي السنوات الأولى من عمر الدولة الأميركية الناشئة فإن العنصرية البيضاء كانت شائعة بين السياسيين الأميركيين. ومن المعروف أن اتجاهات توماس جيفرسون -وهو أحد الآباء المؤسِّسين الكبار- كانت زاخرة بالتعصب ضد السود، مما قد يمنعهم إلى الأبد من أن يعيشوا معاً مع البيض على قدم المساواة. وقد ظهر جلياً المكون العنصري في السياسة الخارجية الأميركية في اتجاهاتها إزاء الثورات التي قامت في آسيا، وخصوصاً الثورة الصينية، وخلال حرب فيتنام. ومن ناحية أخرى فإن التمييز العنصري داخل الولايات المتحدة الأميركية وخرقها الفاضح لحقوق الإنسان، بما في ذلك المرحلة "المكارثية" في الخمسينيات (نسبة إلى عضو الكونجرس مكارثي الذي قاد حملة غير قانونية ضد اليساريين والشيوعيين الأميركيين)، كل ذلك أدى إلى عدم جاذبية الديمقراطية الأميركية بالنسبة لشعوب متعددة. وأياً ما كان الأمر فقد أظهرت الممارسات الأميركية في السنوات الخمس الأخيرة، ونعني عقب حوادث سبتمبر، أن الولايات المتحدة الأميركية أبعد ما تكون عن تطبيق قواعد خطابها المعلن عن الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. ويمكن القول إن السنوات الأخيرة التي ظهر فيها وجه الولايات المتحدة الحقيقي في أفغانستان والعراق من حيث قهر الشعب الأفغاني والشعب العراقي، وسيادة الممارسات المخالفة لمواثيق حقوق الإنسان، ولمعاهدات جنيف وغيرها من الاتفاقيات الدولية، تكشف عن التناقض بين الشعارات المُعلنة والممارسات الواقعية. غير أنه لا يقل خطورة عن قهر الخارج ونعني الشعوب الأخرى قمع الداخل، ونعني قمع المجتمع الأميركي ذاته، فيما يشبه إعادة المكارثية من جديد، ولكن من خلال تشريعات قانونية، بعضها وافق عليه الكونجرس مؤخراً. ونحن نعرف أنه عقب الأحداث الإرهابية في سبتمبر أصدرت الإدارة الأميركية قرارات تقضي بمحاكمة الإرهابيين أو من يشتبه فيهم أنهم كذلك أمام محاكم عسكرية تعقد جلساتها سراً، وبدون تكليف محامين للدفاع عن المتهمين، ومن حق هذه المحاكم إصدار أحكام بالإعدام. ومن ناحية أخرى وافق الكونجرس على مشروع قانون أعدته إدارة الرئيس بوش يبيح للسلطات الأميركية في مجال التحقيق الجنائي استخدام التعذيب وسيلة لاستنطاق المتهمين في جرائم الإرهاب. وبالرغم من مخالفة هذا القانون لكل القواعد القانونية المعترف بها في التشريعات الجنائية المعاصرة، ومن خرقها لكل قواعد ومعايير حقوق الإنسان، فإن الولايات الأميركية في خطابها الرسمي مازالت مُصرة على أنها المدافعة الأولى عن حقوق الإنسان في العالم. ويشهد على ذلك التقرير السنوي الذي تصدره الولايات المتحدة الأميركية عن خرق حقوق الإنسان وحرية الأديان في العالم، والذي ترفع فيه وزارة الخارجية الأميركية توصياتها للرئيس الأميركي بتوقيع العقوبات اللازمة ضد أية دولة تخرق حقوق الإنسان أو تعتدي على الحرية الدينية. ومعنى ذلك أن الولايات المتحدة الأميركية قد وضعت نفسها في مكان المشرِّع العالمي والقاضي المنفذ لحقوق الإنسان، في حين أنها تمارس على أوسع نطاق -من خلال قهر الخارج وقمع الداخل- مخالفة معايير حقوق الإنسان. ولذلك كله ليس غريباً أن يقرر الجمهور الإنجليزي في استطلاع أجرته جريدة "الجارديان" أن الولايات المتحدة الأميركية هي أخطر دولة تهدد السلام العالمي!