اضطرتني الظروف إلى تسليم هذا المقال قبل أن أعرف شيئاً عن نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأميركي بمجلسيه، والتي بدأت أول من أمس الثلاثاء... لكن هاكم شيئاً أعرفه بالفعل حق المعرفة: إن هذه الانتخابات يجب أن تكون آخر انتخاباتنا التي تدور حول العراق أو بالأحرى التي يكون لما يحدث في العراق تأثير على نتائجها. إن حرب العراق قد تحولت إلى جرح دامٍ يستنزف أمتنا، ويؤثر على وحدتها في الداخل، وعلى مكانتها ووضعها في الخارج. وفي اعتقادي أنه لا أحد لديه القدرة الآن على التنبؤ بما سيكون عليه العراق بعد عشر سنوات من الآن. من ناحيتي فإنني أتمنى له الخير... وإن كنت أعتقد أننا لو نظرنا إلى الوضع في العراق على المدى القريب، فإن الصورة ستكون واضحة وسيتبين لنا أننا لن نخرج من العراق بشيء من الأشياء التي ستجعلنا نشعر إزاءها بفخر خاص، أو شيء من الأشياء التي تجعلنا نشعر أنها تستحق تلك الأكلاف الباهظة في الأرواح وفي الأموال التي تكبدناها هناك. وأستطيع أن أقول إنه لم يتبق لنا في العراق سوى خيارين: الخيار الذي "يمكن احتماله"، والخيار "الرهيب" غير المتحمل، أما الخيار "الجيد" فلم يعد مدرجاً إطلاقاً على قائمة الخيارات المحتملة. وقد يتساءل المتسائلون: ولكن لماذا لم يعد الخيار "الجيد" مدرجاً على القائمة؟ عندما يقرأ هؤلاء القصص الخبرية الآتية من العراق، والتي تقول إن كل ما يتعين علينا القيام به هو أن نتخلص من كافة رجال الشرطة الموجودين هناك، وأن نقنع ثلث عدد الجنود في الجيش العراقي (الثلث فقط) بالحضور للدوام بشكل منتظم، وأن نقوم باستبدال جميع الوزراء الفاسدين... فإنهم سيدركون حينئذ لماذا لم يصبح الخيار "الجيد" من الخيارات المتاحة أمامنا الآن. لقد حان الوقت كي نقوم بالدفع بشكل نهائي في اتجاه الخيار الذي "يمكن احتماله" وأن نعمل إذا ما أخفقنا في ذلك على ترك العراق وحماية أنفسنا وحماية حلفائنا من الخيار "الرهيب"، فالأمور لا يجب أن تمضي على النحو الذي تمضي عليه الآن. إنه لشيء محزن في الحقيقة! أقول ذلك لأن العراق كان يرمز لصراع الأمل ضد التاريخ... فبعد الحادي عشر من سبتمبر، وبعد صدور تقرير التنمية الإنسانية العربية الذي يدرج بالتفصيل أحوال العالم العربي الإسلامي الذي يزداد عجزه باطراد عن تحقيق أداء إيجابي -والذي ينتج أعداداً كبيرة جداً من الإرهابيين- أصبحت لنا مصلحة حقيقية في التعاون مع العراقيين من أجل بناء مجتمع لائق وتقدمي، ومتحول ديمقراطياً في قلب العالم العربي. كان علينا كي ننجح في ذلك أن نعمل على تأسيس نظام آمن في العراق، وأن نحول دون وقوع الهجمات الوحشية التي كان يشنها البعثيون والسُّنة على الشيعة، غير أن فريق بوش الذي وصل إلى العراق لم يكن لديه سوى عدد قليل للغاية من الرجال وليست لديه أي خطط، فعجز عن تحقيق أي من الهدفين. كان من الطبيعي، والوضع هكذا، أن تبرز "القبلية" في العراق على السطح، وأن يفقد المواطنون العراقيون من كافة الأطياف الحد الأدنى من الثقة اللازمة لصياغة ديمقراطية حقيقية، فكانت النتيجة هي هذه الحرب الأهلية الطاحنة التي تدور بين العراقيين بأسلوب "العين بالعين والسِّن بالسن". والخيار الذي "يمكن احتماله" والذي يجب أن يكون مستقراً وقادراً على الاستمرار، سيتطلب إعادة صياغة العراق على صورة اتحاد فيدرالي فضفاض ينقسم بشكل عام إلى ثلاثة كيانات: كيان يغلب عليه الأكراد، وكيان يغلب عليه الشيعة، وكيان يغلب عليه السُّنة. ولكي ينجح هذا الاتحاد فإن الأمر سيتطلب إبرام اتفاقيات جديدة؛ واحدة مع إيران وزبائنها من الشيعة العراقيين، وواحدة مع سوريا وحلفائها من البعثيين السُّنة، وواحدة مع الأكراد. وبموجب هذا الاتحاد الفضفاض سيظل للعراق مركز يتمثل في العاصمة بغداد، غير أن السلطة ومداخيل النفط ستكون غير مركزية وسيتم توزيعها على الطوائف المختلفة، كما سيتم إخضاع الديمقراطية لهدف الاستقرار، أي أن يسبق هدف تحقيق الاستقرار ذلك الهدف الخاص بتحقيق الديمقراطية. ويمكن لقوة صغيرة تابعة للولايات المتحدة، أو تابعة لمنظمة الأمم المتحدة أن تبقى في العراق لحراسة الحدود بين تلك المجتمعات الثلاثة والتأكد من احتواء العنف المستمر. وحتى تتمكن أميركا من تحقيق ذلك -على بساطته- فإنها ستحتاج ربما إلى تحديد موعد، وإلى التهديد بالمغادرة إذا لم يتوقف ذلك العنف. وبدون أن تفعل ذلك فإن الأطراف المتنازعة لن تتفاوض بجدية. أما الخيار "الرهيب" فيتمثل في تنفيذ ذلك التهديد بمغادرة العراق فعلاً خلال تاريخ محدد، لأن العراقيين أظهروا أنهم غاضبون وممزقون بدرجة لا تسمح لهم بالتوصل إلى أي اتفاقية. وستكون نتيجة ذلك هي أن نيران الجنون المحتدمة الآن في العراق، والتي يقوم فيها العراقيون بقطع رؤوس بعضهم بعضاً وتفجير مساجد بعضهم بعضاً، ستزداد التهاباً. ورغم أن انسحاب الولايات المتحدة في مثل هذه الظروف سيكون مرتبكاً ومشيناً في الحقيقة، إلا أن عذرنا سيكون أنه ليس أمامنا هناك الكثير مما يمكن أن نفعله، طالما أن العراقيين مصممون لهذه الدرجة على قتل بعضهم بعضاً. غير أنه سيتعين علينا -مع ذلك- أن نصدر تأشيرات للعراقيين الراغبين في الهروب من ذلك الجنون، وأن نوفر مظلة أمنية للأكراد حتى لا تقوم سوريا أو تركيا أو إيران بغزوهم إذا ما غادرنا، كما سيتعين علينا أن نحمي الأردن من أن تمتد إليه تأثيرات ما يحدث في العراق الآن. وعلى الرغم من بؤس هذا الخيار، فإنه لا يخلو من بعض المنافع الاستراتيجية؛ فسوريا ستجد نفسها مضطرة لدعم السُّنة وإيران ستجد نفسها مضطرة لدعم الشيعة، وستصبح هاتان الدولتان طرفين يقفان وجهاً لوجه في الحرب الأهلية. كما ستضطر إيران إلى جانب ذلك للتعامل مع الفوضى في جنوب العراق وخصوصاً مع المليشيات الشيعية، وهو ما سيمثل صداعاً دائما لها. وبعد الخروج من العراق ستصبح الولايات المتحدة بعيدة عن مدى الانتقام الإيراني، وأكثر حرية وقدرة على مواجهة التحدي النووي لهذه الدولة، وستتخلص من وصمة الاحتلال وبشاعات أبوغريب، ما سيمكنها من أن تصبح أكثر قدرة على مواجهة الراديكالية الإسلامية بعد تحسين صورتها وتحولها إلى أميركا الطيبة بدلاً من السيئة. فضلاً عن ذلك فإن عدم استقرار العراق سيرفع سعر النفط إلى 80 دولاراً للبرميل، مما سيترتب عليه تحول المزيد من الأشخاص في الولايات المتحدة إلى الاستثمار في مصادر الطاقة البديلة، وشراء السيارات التي تستخدم الوقود المهجَّن، مما يمكننا من إنهاء اعتمادنا على نفط الشرق الأوسط بأسرع مما هو مُقدر. هذان هما خيارانا الحقيقيان في العراق الآن؛ خيار "يمكن احتماله" وخيار "رهيب"، وقد حان الوقت كي نختار بينهما... فلم يعد مجدياً أن تستمر الأوضاع على ما هي عليه الآن... ولم يعد مجدياً أن نضيّع مزيداً من الدماء وننفق مزيداً من الأموال دونما فائدة ترتجى! ــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"