كوريا الشمالية هي الدولة الأولى التي تنسحب من معاهدة حظر الانتشار النووي. وعلى الرغم من أنها قد وافقت على العودة إلى المباحثات السداسية، فإن المتشككين لا يتوقعون سوى حدوث تقدم محدود. من ناحية أخرى يتنبأ المتشائمون بسقوط نظام حظر الانتشار النووي برمته غير أنني شخصياً اعتقد أن هذا النوع من "القدرية" خطأ، وأن هناك العديد من الأشياء التي يمكننا القيام بها للحيلولة دون ذلك. ليس هذا فحسب بل إن الحقيقة هي أننا نبلي بلاء حسناً فيما يتعلق بمنع انتشار الأسلحة النووية ربما بشكل أفضل مما كان متوقعاً. ففي عام 1963 تنبأ الرئيس جون كنيدي أن عدد الدول التي تمتلك أسلحة نووية سيتراوح ما بين 15- 20 دولة خلال العقد التالي(عقد السبعينيات). وعلى الرغم من أن كل دولة من دول العالم لديها الحق في الدفاع عن نفسها وأن هناك في الوقت الراهن قرابة خمسين دولة تتوافر لها المعرفة الفنية التي تمكنها من تصنيع سلاح نووي، فإن عدد الدول التي أقدمت على ذلك لا يتجاوز تسع دول منها الدول الخمس الكبرى الموقعة على اتفاقية حظر الانتشار النووي عام 1968، وأضيف لها فيما بعد الهند وباكستان وإسرائيل والآن كوريا الشمالية وهناك دولة مثل جنوب أفريقيا طورت أسلحة نووية، ثم قامت بالتخلي عنها، وهناك دول أخرى مثل كوريا الجنوبية والأرجنتين وليبيا قامت بإنهاء برامجها الخاصة بإنتاج الأسلحة النووية. وليس وقتنا الحالي هو فقط الوقت الذي تعرض فيه نظام حظر الانتشار النووي لخطر السقوط؛ ففي عام 1973 أدى إقدام الهند على إجراء تجربة على قنبلة نووية، والذي تزامن بارتفاع سريع في أسعار النفط إلى انتشار توقعات قوية بحدوث توسع سريع في التجارة النووية. في ذلك الوقت كانت فرنسا تبيع منشآت المعالجة النووية لباكستان وكانت ألمانيا قد بدأت في بيع تقنية التخصيب إلى البرازيل. وكان عدد من الدول الموقعة على الاتفاقية تخطط لاستيراد وتطوير منشآت تخصيب ومعالجة نووية وبمنتصف ذلك العقد(السبعينيات)، كان قد أصبح لدى كوريا الجنوبية وتايوان برامج سرية لتطوير الأسلحة النووية وهو ما أدى إلى مخاوف حقيقية من انهيار نظام منع الانتشار النووي. ولكن الذي حدث في ذلك الوقت هو أن إدارتي "فورد" ومن بعده "كارتر" تمكنتا من الحيلولة دون سقوط هذا النظام بالاستعانة بمزيج من الأدوات. من تلك الأدوات ما عرف باسم "الضمانات الأمنية الأميركية"، التي تم بموجبها توفير الحماية النووية للدول الأوروبية واليابان تحت المظلة النووية الأميركية. كما قامت الإدارتان بإخبار كوريا الجنوبية وتايوان أن استعدادنا للدفاع عنهم سيتعرض للخطر إذا ما قامت أي دولة منها بتطوير سلاح نووي. كما قامت الولايات المتحدة في ذلك الوقت بتعزيز معاهدة حظر الانتشار النووي والهيئة الدولية للطاقة الذرية، من خلال إقناع ألمانيا وفرنسا بتقليص صادراتهما، وأيضاً بإقناع دول توجد بينها اختلافات جمة مثل الاتحاد السوفييتي واليابان بالانضمام إليها في تكوين ما عرف بـ"مجموعة الإمدادات النووية" كما شاركت الولايات المتحدة عام 1977 في المفاوضات التي جرت في لندن الرامية إلى التوصل لاتفاق على عدم تصدير منشآت تخصيب ومعالجة كما أقنعنا العشرات من الدول بالاشتراك فيما عرف بـ"التقييم الدولي لدورة الوقود النووي"، التي نجحت في التوصل إلى تقديرات أكثر واقعية لمنافع وأخطار تجارة المواد النووية. وعلى الرغم من أن تلك الإجراءات لم تحل بين باكستان وبين إجراء تجربة نووية في العقد التالي، فإنها ساهمت على الأقل في إضفاء الاستقرار على التوقعات الخاصة بالانتشار النووي. ما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من ذلك، والتي يمكن أن تفيدنا اليوم؟ نحن بحاجة مرة أخرى لاستخدام مزيج من الأدوات تبدأ بالضمانات الأمنية، ولا شك أن وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، كانت على حق عندما طمأنت اليابان وكوريا الجنوبية بشأن التزامنا بحمايتهما وليس من المتوقع أن تحذو اليابان حذو كوريا الشمالية، إلا إذا ما ارتكبنا ذلك الخطأ الفظيع الخاص بتقليص تواجدنا في المنطقة. كما يمكننا أيضاً العمل على تعزيز المؤسسات الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن الذي قام في الآونة الأخيرة بفرض عقوبات رادعة على كوريا الشمالية، القصد منها تعزيز نظام حظر الانتشار النووي من خلال إفهام كافة الدول أن أي تكلفة للخروج على هذا النظام ستكون باهظة. سيتطلب الأمر في المقام الأول صياغة استراتيجية طويلة الأمد، تعتمد على تقديم الجزرة والتلويح بالعصا، ويمكننا من خلالها تقديم اعتراف وحوافز اقتصادية في مقابل تجميد انتاج المواد القابلة للانشطار وتعزيز نظام التفتيش الخاص بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتجديد التزامنا بخطة طويلة الأمد لنزع الأسلحة النووية من شبه الجزيرة الكورية. فالنظام الكوري الشمالي سيختفي يوماً ما- فلنقل خلال العقد القادم- وهو احتمال تعتبر فرص حدوثه من خلال الإدماج أكثر من فرص حدوثه بواسطة العزل، مما يؤدي إلى زيادة التوقعات الخاصة بقيام كوريا الشمالية باقتفاء أثر كوريا الجنوبية. إذا ما قمنا بصياغة تلك الاستراتيجية فإن تجربة نظام بيونج يانج النووية الأخيرة لن تكون هي نهاية نظام حظر الانتشار النووي. في هذا السياق يعتبر استئناف المحادثات السداسية خطوة صغيرة على هذا الطريق أما بالنسبة لهؤلاء الذين يرون أن الجواد قد هرب من الحظيرة فإن المهم هو كم جوادا هرب من تلك الحظيرة؟ وما هي السرعة التي يركض بها؟ وهل السباق أبعد ما يكون عن الانتهاء؟