في خطوة تعتبر الأولى والأجرأ من نوعها في العالم قررت سنغافورة التحول بكاملها إلى منطقة لاسلكية عملاقة، في محاولة منها لتقديم نموذج يحتذى به في كافة أنحاء العالم ولفتح المجال أمام السنغافوريين لدخول عالم المعرفة الرقمي من أوسع أبوابه. كيف؟ بحلول العام القادم 2007 سيتمكن سكان سنغافورة البالغ عددهم 4 ملايين نسمة من تصفح شبكة الإنترنت مجاناً عبر خطوط اتصال فائقة السرعة، إذ أن كل ما يحتاجه أي شخص هو كمبيوتر محمول أو أي جهاز للاتصال بالإنترنت ليتمكن من استعراض صفحات الإنترنت من أي موقع في سنغافورة، سواء كان ذلك حديقة عامة أو أماكن ترفيه أو أي مكان عام في هذه الجزيرة المتقدمة اقتصادياً وتقنياً. الهدف من ذلك كما يقول رئيس وزراء سنغافورة "لي هسيان" توفير فرص الاستفادة من العصر الرقمي لكل السنغافوريين وعدم السماح بحدوث فجوة رقمية بين أفراد المجتمع. بالإضافة إلى ذلك، فإننا نعتقد أن سنغافورة استوعبت تماماً ما يعنيه الاقتصاد الرقمي المتزايد الأهمية لمستقبل التنمية في كافة بلدان العالم. تكلفة هذا البرنامج الطموح تبدو ضئيلة مقارنة بتحول أفراد المجتمع إلى الاقتصاد الرقمي مع كل ما يعنيه ذلك من تقدم اقتصادي واجتماعي وثقافي في المجتمع، إذ أن هذه التكلفة لا تتجاوز 65 مليون دولار أميركي، وهو مبلغ يمكن توفيره لإقامة مناطق لاسلكية مشابهة في كافة العواصم العربية على أقل تقدير. تبقى هناك مسألة أخرى تتعلق بمدى قبول شركات الاتصالات العربية بمبدأ تقديم خدمات الإنترنت مجاناً لأفراد المجتمع، وخصوصاً أن هذه الخدمات مكلفة جداً في العديد من البلدان العربية وتتجاوز 100 دولار شهرياً، ما يعني أنها غير متاحة لمعظم أفراد المجتمع، وذلك إذا ما استثنينا البلدان العربية الغنية والتي تتوفر فيها هذه الخدمات بما يتناسب والمستوى المعيشي المرتفع. من هنا قد يعكس مثل هذا التوجه تضارباً في المصالح بين أرباح شركات الاتصالات في البلدان العربية وبين توفر الإمكانيات الخاصة بدخول المجتمع الاقتصاد الرقمي المتطور والذي سيحدد في المستقبل موقع كل دولة في التقسيم الجديد للعمل الدولي ومدى التقدم الاقتصادي والاجتماعي فيها. سنغافورة حلت هذه الإشكالية من خلال نظام الضرائب، فتمويل المشروع جاء من خلال الضرائب الحكومية، هنا بالذات يمكن إيجاد صيغة توفيقية بين أرباح شركات الاتصالات العربية والمصالح العامة للمجتمع والمتمثلة في توفير خدمة الإنترنت وما يتبعها من معرفة تقنية ورقمية لكافة أفراد المجتمع والتي ستنجم عنها تغيرات إيجابية كبيرة في كافة المجالات. أولاً تكلفة المشروع لأية مدينة عربية تبدو زهيدة وفي متناول كافة البلدان العربية، بما فيها الفقيرة منها، باعتبار ذلك مشروعاً استثماريا مهماً، إذ أن الاستثمار في التعليم والمعرفة يعتبر أحد أهم أشكال الاستثمار، علماً بأن تكلفة المشروع يمكن أن يتحملها القطاع الخاص في البلدان العربية، خصوصاً وأن الضرائب والرسوم المفروضة على أنشطة القطاع الخاص إما أنها شبه معدومة أو أنها ضئيلة بشكل عام. ثانياً، المردود المجتمعي لهذا التوجه يستحق التنازل عن جزء من أرباح شركات الاتصالات مؤقتاً، إذ يمكن تعويض هذا الجزء بسهولة، إما من خلال الضرائب المفروضة أو من خلال تنويع أنشطتها والدخول في أنشطة واستثمارات جديدة ومجزية، فعالم الاتصالات وتقنيات المعرفة الرقمية يدخل في كافة مناحي الحياة والإنتاج والخدمات وينقل المجتمعات الإنسانية من مرحلة التصنيع إلى مرحلة جديدة قد يسميها البعض مرحلة ما بعد المجتمع الصناعي. وبما أن معظم المجتمعات العربية تعيش ما قبل المجتمع الصناعي ولا زال بعضها يعتمد على المواد الخام الزراعية، فإن التوجه نحو المعرفة وتعميم التقنيات الرقمية سيتيح لكافة البلدان العربية اللحاق بالاقتصاديات الرقمية القادمة بسرعة كبيرة. أعتقد أن هناك ثلاث إلى أربع مدن عربية، ثلاث منها خليجية مرشحة من وجهة نظرنا لنسخ التجربة السنغافورية في السنوات القليلة القادمة، إلا أننا لن نذكر هنا أسماء هذه المدن، تاركين للقارئ الكريم تخمين ذلك من خلال متابعته للتقدم الذي تحققه كل دولة عربية في مجال تقنية المعلومات والمعرفة الرقمية.