عند الحديث عن العولمة وفوائدها الجمة غالباً ما تتم الإشارة إلى دورها في كسر الحواجز والحدود وتذويب الاختلافات، لينفتح الناس على بعضهم بعضاً في فضاء فسيح من دون قيود، أو مضايقات. فقد أضحى التواصل الإنساني أكثر سهولة ويسراً، وتقلصت المسافات الزمنية والجغرافية بين الناس ليتحول كوكب الأرض إلى قرية عالمية صغيرة تختفي فيها الحدود وتمحي فيها المسافات البعيدة. وهكذا لم يعُد من الصعب على كل من يمتلك الإمكانات اللازمة أن يلف العالم في ثمانين يوماً، دون أن يلاقي الصعوبات ذاتها، التي كان يواجهها المغامرون في الماضي. وحتى العقبات التي تطرحها وسائل النقل التقليدية أصبحت اليوم أقل حضوراً بفضل التطور التكنولوجي، حيث تحول مفهوم التنقل ذاته ليدخل المجال الافتراضي من خلال الإنترنت والكمبيوتر بدل الطائرة والقطار. لكن رغم كل ما يُقال عن فوائد العولمة واختفاء الحدود والحواجز ما فتئت تظهر أخرى جديدة في أكثر من منطقة في العالم، بقصد تقييد حرية التنقل بين الجماعات السكانية المختلفة. فلمواجهة التدفق غير المتحكم فيه لأفواج المهاجرين، أو النازحين، تلجأ الدول إلى بناء الجدران لإغلاق حدودها عن العالم الخارجي. فبعد مرور سبعة عشر عاماً على سقوط جدار برلين الذي رحب بانهياره الجميع في الشرق والغرب معاً، ها هي جدران أخرى ترى النور في عالم اليوم، وتظهر في أكثر من منطقة. فهناك الحائط الضخم الذي تريد الولايات المتحدة إقامته على طول 1200 كلم من حدودها الجنوبية، التي تفصلها عن المكسيك بهدف تقليص التدفق الكبير لأعداد المهاجرين غير الشرعيين الذين يدخلون سنوياً إلى الأراضي الأميركية. والواقع أن الولايات المتحدة لا ترغب في تسهيل انتقال حر للأشخاص بين حدود البلدين، فيما تصر من جهة أخرى على فتح الحدود في وجه حرية مرور البضائع والخدمات. ومن جانبهم يعمل الإسرائيليون على بناء جدار عازل في الضفة الغربية يفصلهم عن الأراضي الفلسطينية بذريعة الحؤول دون دخول "الإرهابيين". وبالمثل أعلنت السلطات الأسبانية عن نيتها إقامة جدار يحيط بالمدينتين المغربيتين المحتلتين سبتة ومليلية لإبعاد المهاجرين السريين القادمين من أفريقيا وإحباط تطلعاتهم للالتحاق بـ"الفردوس الأوروبي المنشود". ودائماً في حوض البحر الأبيض المتوسط، مازالت الحدود تفصل بين الجزأين التركي واليوناني من جزيرة قبرص وتحول دون التقاء الشعبين. وحتى الصين، فهي تعتزم بناء جدار يفصلها عن كوريا الشمالية تحسباً لأي تدفق غير متحكم فيه لأعداد كبيرة من النازحين الذين يفرون من المجاعة واضطهاد نظام "كيم يونج إيل". وواضح أن الهدف من بناء تلك الجدران والحواجز هو وقف تدفق المهاجرين إلى الدول التي تقيمها. ففي ألمانيا بني جدار برلين لمنع فرار المواطنين من الجزء الشرقي إلى ألمانيا الغربية لما في ذلك من تشهير بالنظام الشيوعي ونيل من سمعته. وفي المقابل كان الجزء الغربي يفتح ذراعيه للفارين ويستقبلهم استقبال الأبطال. أما اليوم فإن الدول الأوروبية تعمل جاهدة لمنع قدوم أشخاص جدد وتبذل قصارى جهدها لإبقائهم خارج ترابها، وبخاصة في وجه هؤلاء القادمين من الجنوب الأكثر فقراً الذين يتطلعون إلى العيش وسط الأغنياء. فهل تتمتع هذه الجدران بأية شرعية قانونية؟ أجل، مع الأسف حيث إن لكل دولة ذات سيادة الحق في بناء ما تشاء من الجدران شريطة أن تكون على حدودها، وليس على حدود جيرانها. لذا يعتبر الجدار العازل الذي تشيده إسرائيل، إلى جانب الاعتبارات الإنسانية، غير شرعي من الناحية القانونية بسبب التهامه لأجزاء من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وانتهاكه للشرعية الدولية التي حددت الخط الأخضر كنقطة للفصل بين الفلسطينيين وإسرائيل. لكن بعيداً عن الاعتبارات الأخلاقية التي تدين إقامة الجدران والفصل بين الشعوب والبلدان، بدعاوى أمنية أو سياسية ترقى أحياناً إلى دوافع عنصرية، يحق لنا أن نتساءل عن مدى فاعلية تلك الحواجز في تحقيق الأغراض التي أنشئت من أجلها. والحقيقة التي لا مراء فيها أن الجدران على علوها ومتانتها تبقى عاجزة كل العجز عن معالجة المشاكل التي أقيمت لحلها، ما دامت تركز على النتائج وتهمل الدوافع الحقيقية التي تقف وراء ترك عدد كبير من الأشخاص أوطانهم والجري خلف الهجرة. وعلى سبيل المثال، لا تستطيع إسرائيل من خلال الجدار العازل منع هجمات الفلسطينيين. فهي وإن نجحت في منع تسلل العناصر الفلسطينية وقيامهم بعمليات داخل إسرائيل، إلا أنها ستظل عاجزة عن التعامل مع الصواريخ والقذائف التي يطلقها الفلسطينيون، ذلك أن الجدار العازل الذي يقضم أجزاء من الأراضي الفلسطينية لا يزيد سوى في تكريس المشكلة؛ وهي مشكلة الاحتلال الذي يرفض الالتزام بالقرارات الدولية والانسحاب من الأراضي الفلسطينية. ولن يكف الفلسطينيون عن شن الهجمات ما لم تعالج الجذور السياسية للصراع وتحل عن طريق بدء عملية السلام بدلاً من بناء جدران عديمة الجدوى. فعلى المدى البعيد لن يساهم الجدار العازل في الضفة الغربية سوى في تغذية الغضب الفلسطيني وتأجيج الإحساس بالظلم، الذي سيولِّد بدوره العنف والاحتقان السياسي. وإذا كان للجدار العازل من دور على المدى القريب في منع تسلل العناصر الفلسطينية إلى داخل إسرائيل، فإنه على المدى المتوسط والبعيد سيظل عاجزاً عن ضمان الأمن لإسرائيل، لأن هذا الأخير مرهون بحل عادل للصراع يعطي للفلسطينيين حقوقهم عبر الانسحاب من الأراضي المحتلة والكف عن عمليات إسرائيل العسكرية ضد الأبرياء في قطاع غزة والضفة الغربية. والشيء نفسه يسري على الحواجز في البلدان الأخرى، فرغم فائدتها الآنية المتمثلة في منع تدفق المهاجرين على الدول الأوروبية، أو الولايات المتحدة إلا أنها لن تسهم في إيجاد حل نهائي لمشكلة الهجرة ما دامت الجذور الحقيقية مُغيبة عن النقاش. فمن دون معالجة الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية في البلدان الفقيرة والسعي إلى تقليص الهوة بينها وبين الدول الغنية سيستمر تدفق المهاجرين بأعداد كبيرة نحو الشمال، على رغم كل الجدران والحواجز التي يمكن بناؤها. والأكثر من ذلك ستساهم الجدران في مفاقمة المشكلات، لأنها تولد عند مواطني الدول الفقيرة رغبة أكبر في رفع التحدي واجتياز الحواجز، وفي حالات أسوأ السعي إلى الانتقام من الشمال الغني الذي أوصد أبوابه في وجوههم.