كانت أول هجرة لي من ديار "البعث" الظالمة في 13 يناير 1975، ولم أعرف أن من يضع قدمه في رحلة الهجرة قد يرجع إلى الوطن بكفن، وقد يموت في أرض الغربة والبعد والبرد، كما حصل لزوجتي داعية اللاعنف (ليلى سعيد) التي ماتت في ثلوج كندا. وأول محطة نزلت فيها في ألمانيا كانت مدينة "نورمبرغ"، وكنت قد قرأت عنها الكثير، وقام الدكتور "سميح قنبرجي" مشكوراً يومها، فأوصلني إلى مكان عملي في منطقة بافاريا، إلى مدينة صغيرة على الحدود التشيكية هي "زيلب"Selb ، حيث باشرت العمل مع جرَّاح مجنون، يحتاج أن يعالج بجراحة مكثفة في دماغه، فصبرت عليه صبر المؤمنين أكثر من عام. وفي مدينة "نورمبرغ" نشأ الحزب النازي وترعرع، وكان يقوم باستعراضاته الليلية، وهو يحمل المشاعل المتوهِّجة، ويقف القائد "أدولف هتلر" في النافذة فيحيي هذه الجموع الضالة المُضلة. ولذا بعد أن تمت هزيمة النازية حرص "الحلفاء" أن يقوموا بشنقها في أرضها الأم حيث نشأت وترعرعت. وفي عام رحيلي كان شعوري أن الاختصاص الطبي في ألمانيا أفضل. ولم يطب لي فيها المقام، وعرفت أن الشمال الأميركي هو مزيج الأعراق والأجناس واللغات والأديان، وأن القارة العجوز ما زالت ترزح وتعاني من حزمة من الأمراض العنصرية والشوفينية، ولقد رأيت بأم عيني كيف يكتب الألمان في كل مكان أيها الأجانب "انقلعوا من هنا" Auslaender raus، كما رأيت حرق الأجانب، ورأيت صعود النازية في ألمانيا الشرقية، وهو أمر عجيب لبلد تمت تنشئة شبابه على "الحزب القائد" والشيوعية، وشعرت ببرودة الغربة في عظامي مع كل مكثي، وكان كل يوم يمر عليَّ وكأنني أشرب الدواء المُر شرباً، وهو الذي دفعني باتخاذ قرار توديع أرض "البعث" إلى يوم البعث، وغسل يدي إلى المرافق منه سبعاً، ومغادرة ألمانيا، وقطع المحيطات إلى أرض الحريات كندا؛ وزرع ذراري هناك، فنحن هناك بنعمة الله إخواناً. وفي هذه الأيام أرسلت لي مجلة "الشبيجل" الألمانية، عدداً خاصاً عن هذه الذكرى المشؤومة، التي تتبعتها بحذر وتأمل، وقرأت عن النازية عشرات الكتب، ورأيت عشرات الأفلام الوثائقية. وكتاب "ويليام شرر" بأجزائه الأربعة ممتع جداً، وينصح بقراءته، وفيه عرض مفصل لتلك المحكمة التاريخية، التي جرت فصولها في خريف عام 1946. يقول مالك بن نبي إنه في محكمة "نورمبرغ" تم دفع الرأس النازي للمقصلة كبش فداء، وكان من المفروض أن يقدم للمحكمة كل من ساهم وشارك وموَّل ماكينة الحرب، ومنهم ترومان وستالين. ومن أهم فصول هذه المحكمة ولأول مرة في تاريخ البشرية، يتم تعريف الحرب بأنها جريمة بكل أشكالها وكل من غذّاها وساهم وموّل وسعى إليها بخيْل وركاب. وأعجبني "برتراند راسل" الفيلسوف البريطاني حين رأى أن الحرب العالمية الأولى كانت مفاجئة، ولم يكن هناك ما يبررها، ولكن الحرب العالمية الثانية كانت تحصيل حاصل، فهي من ذيول وتوابع الحرب الكونية الأولى، و"اتفاقية فيرساي" المجحفة، ولكن "اشبنجلر" الفيلسوف الألماني والمؤرخ المشهور رأى العكس، وهو أن الحرب العالمية الأولى كانت نتيجة طبيعة للتكالب الاستعماري بين القوى العظمى، وأنها مؤشر للانحطاط الحضاري الذي سيجر ذيوله عبر القرون القادمة. ولا يوجد من يستطيع أن يفسر الأمور على نحو علمي، فالحرب ما زالت تشتعل في أماكن محددة من العالم، ولكن الأكيد أن من يخوض الحرب هم ثلاث فرق من المجانين؛ فإما كانت بين المتخلفين، أو لتأديب المتخلفين، أو شنها المتخلفون عقلياً. ومحكمة "نورمبرغ" تبقى درساً لكل المجانين في العالم والمجرمين؛ أن الشقي لن ينجو بفعلته، فإن نجا فهو قصور في العدالة البشرية؛ وسوف يتحسن أداؤها مع الوقت، كما هو الحال في مشروع المحكمة العالمية التي أجهضتها أميركا كالعادة. والدين يعطي العزاء لفهم العالم وكيف يموت المجرمون في عزة وشقاق، ورجل مثل "كالتن برونر" رئيس المخابرات النازية الذي شنق، تقصر لعدالة الأرضية في إقامة العدل على نحو مطلق، مقابل عدد من قتل وعذب وآذى وهجر. فالوزن الحق يوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل.