تشيع في العاصمة التركية أنقرة، وكذلك في واشنطن وعدد من العواصم الأوروبية، شائعات منذرة باحتمال الإطاحة بحكومة رئيس الوزراء التركي وزعيم "حزب العدالة والتنمية"، رجب طيب أردوجان، عبر انقلاب عسكري. ويقدر أن هذا الخطر المحتمل، ناشئ عن رئيس أركان الحرب، الجنرال "يسار بويوكابت"، الذي تسلم منصبه في الثلاثين من شهر أغسطس المنصرم. ويعتقد أنه أقل حماساً للإصلاح من رفيقه السابق الجنرال "حلمي أوزوك"، وأنه أقل ميلاً لقبول سيطرة المدنيين على الجيش. ولد الجنرال "بويوكابت" في اسطنبول عام 1940، وتخرج في الأكاديمية العسكرية في عام 1961، ثم صعد سلم القيادة العسكرية منذئذ. ويعد هذا الجنرال من أشد المدافعين عن العلمانية وعن الوحدة السياسية للبلاد، أي أنه على قدر كبير من التمسك بالمبادئ الموروثة عن الأب الروحي المؤسس لدولة "تركيا الفتية"، كمال أتاتورك. ومما يدور من شائعات أن الجنرال "بويوكابت"، يبدي مخاوف من أن تذعن حكومة أردوجان لضغوط الاتحاد الأوروبي عليها، فتنحو إلى تقديم تنازلات للانفصاليين الأكراد, وكذلك للقبارصة اليونانيين،ِ وفوق ذلك وأشد خطراً منه، أن يزداد توجه الدولة التركية أكثر فأكثر نحو المنحى الإسلامي الساري الآن، بما يهدد بانحسار ذلك الإرث العلماني الذي خلفه "أتاتورك". وفي كل ذلك ما يستدعي تصحيح المسار عبر انقلاب عسكري، من شأنه إعادة الأمور إلى نصابها، وكما أراد لها مؤسسها أن تكون دولة علمانية حديثة فتية. يذكر أن للجيش يداً عليا في تركيا، وأنه بمثابة الحارس الوحيد، القيِّم على الشرعية الوطنية للبلاد. وعلى الصعيد الآخر، فقد كابد رجب طيب أردوجان أيما مكابدة، من أجل المضي قدماً على طريق الإصلاح وإحداث التحول الديمقراطي لبلاده، بغية حث خطى انضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي. وكانت المحادثات هذه قد بدأت مع الاتحاد الأوروبي منذ نحو عام، إلا أنها تعثرت بعد ذلك. هذا ويتوقع للتقرير الأوروبي حول ما أحرزته تركيا من تقدم في طريق انضمامها للاتحاد -وهو التقرير الذي ينتظر صدوره في الثامن من نوفمبر الجاري- أن يكون حاداً في انتقاداته للأداء التركي. وتشير المعلومات الأولية المتسربة عن التقرير، إلى ترجيح حثه لتركيا على إجراء المزيد من الإصلاحات، وإنجاز الكثير من المهام المتبقية الآجلة، قبل المضي خطوة أخرى نحو الانضمام للاتحاد الأوروبي. ويُقال إن بروكسل تطالب أنقرة بإطلاق المزيد من حريات التعبير والتنظيم، وبالمزيد من حريات المرأة وحقوقها، وكذلك حقوق وحريات النقابات والاتحادات المهنية والأقليات. كما قيل إنه يطالب تركيا بالالتزام باستقلال القضاء وبالمزيد من احترام حقوق الإنسان. إلى ذلك كله تطالب بروكسل أنقرة، بالسماح للطائرات والسفن القبرصية اليونانية بالهبوط والرسو في مطاراتها وموانئها. كما يتكهن البعض بأن التقرير سيكون حاداً وشديد اللهجة في انتقاده لنزعة المغالاة الوطنية التركية، إلى حد ربما يضطر فيه الاتحاد إلى تعليق محادثات الانضمام معها. هذا وتسبب حرب الأعصاب هذه بين تركيا والاتحاد الأوروبي، حرجاً سياسياً بالغاً لرئيس الوزراء الحالي، أردوجان. ومن بين العوامل الأخرى المهمة، الخلفية الإسلامية لأردوجان نفسه. والمعلوم أن حزبه الحاكم، حزب "العدالة والتنمية"، قد نشأ من أصول إسلامية. بل إن أردوجان نفسه، طالما بذل من المساعي المتواصلة، في سبيل التخفيف من الحظر المفروض على ارتداء النساء المسلمات للحجاب، داخل الحرم الجامعي والمؤسسات الحكومية. ولما كانت زوجته ترتدي حجاباً، فقد حرمها ذلك من حضور كافة مناسبات الاستقبال الرسمي، وكذلك من جميع الأنشطة الحكومية الرسمية، إضافة إلى ما أثاره ضدها من انتقادات حادة من قبل المتشددين العلمانيين. هذا وتعد الخصومة المستمرة بين الإسلاميين والعلمانيين، سمة رئيسية من سمات الحياة الاجتماعية والسياسية في تركيا. غير أن الشائعات السارية حول احتمال إقدام الجنرال "بيوكابت" على الاستيلاء على السلطة عبر انقلاب عسكري، ربما كانت من شاكلة النميمة العارضة لا أكثر. فعقب صعوده إلى هرم القيادة العسكرية في بلاده، فإنه لا يبدو من الحكمة في شيء, أن يخاطر بكل هذا الإنجاز، بمغامرة عسكرية طائشة، يرجح أن تواجه بشجب الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي بأسره. لكن على رغم كل هذه الاعتبارات، فإنه ليس من اليسير نفي احتمال حدوث انقلاب كهذا، بالنظر إلى رصيد تركيا السابق من الانقلابات العسكرية. ففي مايو 1960، أطاح الجنرال "سيمال جورسيل" بالحكومة المدنية القائمة، وأعدم رئيس وزرائها "عدنان مندريس". أما في مارس من عام 1971، فقد أسفر الإنذار الموجه من الجيش، عن استقالة حكومة "دميريل"، ليطرد سليمان دميريل نفسه من منصبه، في سبتمبر 1980، من قبل الجنرال "كنعان إرفين"، رئيس أركان الحرب وقتئذ. ومما زاد هذه الشائعات السارية حول احتمال وقوع انقلاب عسكري وشيك، ما يتواتر من أخبار وتقارير عن غضب "المحافظين الجدد" في واشنطن على أردوجان، وحماسهم لمغادرته لمنصبه في أقرب وقت ممكن. ولما كان متوقعاً للجنرال "بيوكابت" أن يتجه في وقت مبكر من مطالع العام المقبل، في زيارة إلى الولايات المتحدة الأميركية، فقد سرت الشكوك حول دنو موعد تنفيذ الانقلاب العسكري على حكومة أردوجان. هذا وقد ثارت ثائرة "المحافظين الجدد" على أردوجان، بسبب مواقفه المعلنة من إسرائيل. ويعرف عنه أنه وصف القمع الوحشي الإسرائيلي للفلسطينيين، بأنه شكل من أشكال "إرهاب الدولة". كما ويأخذون عليه توجه سياساته الخارجية نحو مساندة العرب والمسلمين. إلى ذلك يزداد قلق متشددي واشنطن إزاء تنامي نزعة العداء لأميركا في أوساط الجمهور التركي، كردة فعل منه على الحرب الأميركية الجارية الآن في العراق. على أن الأسوأ من ذلك كله، من وجهة النظر التركية، أن هذه الحرب قد أدت إلى تنامي النزعة الوطنية في أوساط الأكراد العراقيين، وهو ما تخشى أنقرة من أن يعزز مشاعر الانفصال بين الأكراد الأتراك. ولعل ذلك ما دعا الجنرال "بيوكابت" للتصريح بأن سحق عصابات حزب العمال الكردستاني، سوف يكون أولوية قصوى عنده. وإذا ما أضفنا الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، والدعم الأميركي لها، فإن ذلك أيضاً مما عزز مشاعر العداء لأميركا وإسرائيل في أوساط الشارع التركي مؤخراً. لكن على نقيض هذه النزعة الشعبية، فقد حافظ الجيش وقوات الأمن التركيان، على علاقة استثنائية وخاصة مع تل أبيب دائماً. ومن هنا فليس مستبعداً أن يعتقد "محافظو" واشنطن الجدد، أن في وسع انقلاب عسكري، أن يبعث الحياة مجدداً، في ذلك التحالف الإسرائيلي-التركي الذي اعتراه الفتور مؤخراً. ومهما يكن، فإن من المرجح أن تتصدر الأجندة المحلية الداخلية، العلاقات بين المؤسستين العسكرية والمدنية. يذكر هنا أن إصلاحات أردوجان، قد أسفرت عن تحويل ميزان القوى في مجلس الأمن الوطني، لصالح المدنيين. وبموجب ذلك التحول، فقد تمتعت المؤسسة المدنية بسلطات إشرافية عليا، على الإنفاق العسكري, وكذلك على الترقيات وقرارات الفصل والتسريح من الخدمة العسكرية. كما صارت اليد العليا للمدنيين فيما يتصل بتقدير وتحديد المخاطر الأمنية المحدِقة بالبلاد. ولعل هذا، فوق أي اعتبارات أخرى، ما يثير ثائرة الجنرال "بيوكابت"، ويدفعه دفعاً باتجاه التمرد العسكري.