كانت الولايات المتحدة سبباً في خلخلة توازن منطقة الشرق الأوسط، عندما قامت بغزو العراق عام 2003.. واستعادة هذا التوازن تحتاج إلى مبادرات جريئة على أن يسبق الخروج السريع من العراق كل تلك المبادرات. وحده الانسحاب الكامل للقوات الأميركية من العراق -خلال ستة شهور وبدون شروط مسبقة- هو الذي يمكن أن يعالج الشلل الذي يقود إلى إضعاف دبلوماسيتنا. وأكبر العقبات التي تواجه عملية خروجنا من العراق في أقرب وقت ممكن هي تلك الموانع النفسية التي يعاني منها قادتنا ويعاني منها شعبنا. فقادتنا لا يفعلون شيئاً من أجل ذلك لأن سمعتهم معرضة للخطر، والشعب الأميركي لا يجبرهم على العمل لأنه يعاني من عدم وضوح الرؤية، بل والعمى بسبب الأوهام التي يشوش عليه بها الرئيس بوش باستمرار ومنها على سبيل المثال أننا نقلص الإرهاب من خلال الحرب التي نخوضها في العراق، وأننا نضع أسس الديمقراطية هناك، ونحول دون انتشار الأسلحة النووية، ونجعل إسرائيل أكثر أمناً، ودون ضياع دماء جنودنا هدراً وغير ذلك من أوهام وخيالات. بيد أنه لم يعد ممكناً تجنب الحقائق أكثر من ذلك. يجب علينا أن نعترف بأن منع الحرب الطائفية الدموية في العراق هو أمر يفوق طاقة أميركا، وأنها غير قادرة على الحيلولة دون تصاعد النفوذ الإيراني عبر المنطقة، ولا على الحيلولة دون امتداد الصراع الشيعي- السُّني إلى الدول العربية المجاورة، فكل تلك الأشياء أصبحت أموراً لا يمكن تجنبها الآن. والأنكى من ذلك أن تلك الحقائق تزداد مع كل يوم إضافي تمكثه قواتنا في العراق.. كما أنها لن تختفي بمجرد أن نتمنى ذلك، أو من خلال الدبلوماسية، أو من خلال بقاء قواتنا في العراق لعدة سنوات قادمة. بمقدور الإدارة الأميركية إدراك أن الانسحاب السريع من العراق هو الوسيلة الوحيدة للتغلب على شللنا الاستراتيجي، وإن كان ذلك يبدو أمراً غير محتمل بصرف النظر عما يمكن أن يحدث من تغير في خطاب البيت الأبيض عشية انتخابات التجديد النصفي. ويمكن للكونجرس أن يجري عملية جرد، وبدون ذلك سيصبح الشعب الأميركي قادراً على استكشاف خطاب البيت الأبيض المزدوج وإجباره على إجراء تغيير جذري في السياسة. والتأخر في تنفيذ ذلك سيترتب عليه إهدار المزيد من الخسائر البشرية الأميركية دون طائل علاوة على تلك التي ضاعت بالفعل من قبل. بعض مشرعي القوانين الأميركيين على استعداد لتغيير اتجاههم بيد أن المعضلة هي أنهم يشعرون بالحيرة أمام السؤال المتعلق بماهية الكيفية التي يمكننا بها مغادرة العراق. إن الإجابة عن ذلك السؤال الذي يحيرهم تتمثل في القيام بأربع مبادرات رئيسية لتوفير الاستقرار الإقليمي والهدوء في العراق. وهذه المبادرات ستجعل الولايات المتحدة أقل نفوذاً في المنطقة ولكنها ستظل مع ذلك هي أفضل صفقة يمكن الحصول عليها. المبادرة الأولى، يجب على الولايات المتحدة أن تقرر أنها قد خلطت الأشياء مع بعضها بعضاً وأفسدتها وأنها غير قادرة على تحقيق استقرار المنطقة بمفردها. وعندما تبدأ القوات الأميركية في الانسحاب فإن واشنطن يجب أن تدعو حلفاءها الأوروبيين وكذلك اليابان والصين والهند لتقديم مقترحاتهم الخاصة للتعامل مع عواقب ذلك الانسحاب. ويمكن تجاهل روسيا في تلك الآونة على أساس أنها ستعلب دور مفسداً في جميع الأحوال. والانسحاب السريع للقوات والتخلي عن الأحادية في التصرف سيكون له أثر منبِّه على جميع الأطراف المعنية. "القاعدة" ستبتهج في البداية ولكنها ستكتشف أن حلفاءها الحاليين وهم البعثيون وبعض السُّنة في العراق لم يعودوا بحاجة إليها. وإيران سوف تشمت في البداية، ولكنها ستكتشف أن الأقلية الكردية فيها ربما تكون راغبة في الانضمام لإقليم كردستان العراقي. وعلى الرغم من أن القادة الأوروبيين قد يكونون راغبين في تولي زمام القيادة فيما يتعلق برسم استراتيجية جديدة للعراق إلا أنهم سيكونون غير قادرين على إنجازها بمفردهم وهو ما سيدعوهم إلى الاستعانة بالولايات المتحدة كي تقود تحالفهم الجديد كما حدث في يوغسلافيا في تسعينيات القرن الماضي. المبادرة الثانية تتمثل في إنشاء منتدى دبلوماسي يضم جيران العراق (ويجب بالطبع ضم إيران إليه). يجب على الولايات المتحدة أن تدعو ذلك المنتدى للانعقاد على أن تكون مستعدة في أي وقت للتنحي عنه إذا ما أصر الأعضاء الآخرون في المنتدى على ذلك. المبادرة الثالثة أن تتعاون الولايات المتحدة مع إيران في المجالات ذات الاهتمام المشترك، إن أمكن. بيد أن الثمن الذي قد تجد الولايات المتحدة نفسها مطالبة بدفعه سيكون هو التخلي عن المعارضة للبرنامج النووي الإيراني وهو ثمن غير مستساغ طبعاً بالنسبة لقادة الولايات المتحدة بنفس درجة عدم استساغتهم لخيار الانسحاب السريع من العراق. وهناك أيضاً من يرى أن ثمة مصالح مشتركة كثيرة وحيوية بيننا وبين إيران، فكلانا يريد إلحاق الهزيمة بـ"القاعدة" و"طالبان". وكلانا يقول إنه يريد تحقيق الاستقرار في العراق حيث إن الاستقرار سيمكن إيران من امتلاك نفوذ في الجنوب الشيعي، كما أن إيران بحاجة لتقنيتنا لزيادة إنتاجها من النفط. المبادرة الرابعة، ضرورة العمل على تحقيق تقدم حقيقي على مسرح الصراع العربي- الإسرائيلي يكون أساساً لتحقيق سلام دائم في الشرق الأوسط. لن يكتب لأية استراتيجية النجاح بدون تلك المبادرات أو المكونات. يجب علينا أن نخرج من العراق بشكل سريع تكتيكياً كي نستطيع أن نحقق النجاح استراتيجياً. فالولايات المتحدة في حاجة إلى استرداد سمعتها كي تكون قادرة على القيادة بشكل إيجابي وتكون قادرة بفضل ذلك على تقليل حجم الخسائر التي يمكن أن تتعرض لها. ويليام ئي. أودوم ــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ بجامعة يل ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"