جاء حديثُ الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله إلى قناة "المنار" التابعة للحزب ليلَ الثلاثاء الماضي ليوصلَ الأزمة السياسية في البلاد إلى الذروة. فقد مهَّد السيد نصرالله لمطالبه من "الفريق الحاكم" أو "فريق السلطة" برؤيةٍ شاملةٍ عنوانُها الخطةُ الأميركيةُ للشرق الأوسط الجديد أو الكبير، والتي تعتمد على الاحتلال أو الغزو العسكري. وذكر أنّ هذه الخطةَ تُواجهُ الانهيار الآن؛ لكنها لم تَنْهرْ بعد. ويقف في وجه هذه الخطة "حزب الله" و"حماس" وسائر الشعوب العربية والإسلامية. وفي هذا السياق نفسه قال إنّ مقاومة الحزب ما أفشلتْ الغزو الإسرائيليَّ فقط بل ألحقت هزيمةً بأقوى جيشٍ في الشرق الأوسط، وحوَّلت لبنان إلى قوةٍ إقليميةٍ يُحسَبُ لها كلُّ حساب. واستناداً إلى هذه الرؤية للعدوّ ومُواجهيه اعتبر"الفريقَ الحاكم" في لبنان( أو قوى 14شباط كما سمّاها) متواطئين مع العدوين الأميركي والإسرائيلي، وأنهم حاولوا تنفيذ أفكار العدوَّين قبل حرب تموز وخلالَها؛ وذكر مثلاً على ذلك خلال الحديث أنّ المُرادَ من جانب الفريق الحاكم، كان المجيء بالقوات المتعددة الجنسية ليس إلى الجنوب اللبنانيّ فقط؛ بل وإلى لبنان كلِّه، وتحت الفصل السابع، لإعانة ذاك الفريق في السيطرة والتـفرد بالداخل ونزْع سلاح "حزب الله"، وتحقيق توطين الفلسطينيين. وقد فشـل الفريقُ الحاكمُ في ذلك -بحسب السيد نصرالله– عندما انتصر الحزبُ في الحرب، فجرى الاكتفاءُ بإدخال الجيش اللبناني إلى الجنوب، وتقوية القوات الدولية لإعانته. وأثنى السيد نصرالله على الجيش، وما هاجم "اليونيفيل"، التي قال إنّ عنده تأكيدات أنها لن تُحاولَ نزعَ سلاح المقاومة، التي ما تزالُ موجودةً وقويةً بالجنوب. وكان المنتظَرُ بعد هذا التخوين لفريق الأكثرية في الحكومة أن يطالب بإزالتها أو إقالتها بالقوة. لكنه لم يفعلْ ذلك؛ بل أعطاها إنذاراً أخيراً مفادُه أنّ على أهل الحكم هؤلاء أن يشاركوا في اللقاء التشاوري الذي اقترحه الرئيس نبيه بري ليوم الاثنين القادم (في6/11/2006)، ويوافقوا مبدئياً على تشكيل حكومة وحدةٍ وطنيةٍ (تشارك فيها قوى حليفة له)، بحيث تشكّلُ مع وزراء "حزب الله" وحركة "أمل" ليس الثلث المعطِّل كما يقول أهل 14 آذار؛ بل "الثلث الضامن"، لعدم استمرار المسار الوطني في الانحراف! وإن لم يفعل هؤلاء؛ فإنّ السيد نصرالله أنذرهم بالنزول إلى الشارع سلمياً وديمقراطياً؛ لكنهم عندما ينزلون فليس للمطالبة بحكومة الوحدة الوطنية؛(يمنعها بحسبه وفي لبنان وفلسطين الرئيس الأميركي!) بل للإرغام على إجراء انتخاباتٍ جديدةٍ قال إنه واثقٌ من نتائجها بحسب كلّ الاستطلاعات. وعندما قيل له: ألا تخشى من حصول اضطراباتٍ أمنية؟ قال: إنّ الحزب والقوى "الوطنية" الأخرى لن تسمح بذلك. وإذا حدث شيء من ذلك، فسيكونُ من عمل الفريق الحاكم، ومرةً أخرى للمجيء بالقوات متعددة الجنسية! وعندما كررت السائلة الاستفهام عن إمكانيات الاضطراب الأمني؛ قال السيد نصرالله إنّه في كل الأزمات السياسية في الدول، تتشكل حكوماتُ وحدة وطنية، والمنطقةُ مضطربة، وأولمرت يهدّد باجتياح غزَّة، وهناك مشروعٌ غربيٌّ لفرض عقوبات على طهران بسبب الملفّ النووي؛ ولذلك فإنّ حكومة الوحدة هذه ستحمي البلادَ والاستقرار، وسط عواصف المنطقة، ولن تؤدي إلى الاضطراب. أما الفتنةُ المذهبيةُ أو الطائفية فلا خوفَ منها أيضاً –بحسب السيد نصرالله- لأنّ "حزب الله" لا يدافع عن قضايا مذهبية أو طائفية؛ بل عن القضايا المشتركة مثل المسجد الأقصى وكنيسة القيامة! وفي القسم الأخير من الحديث أضاف سبباً آخَرَ للمطالبة بحكومة الوحدة مفادُه فَشَلُ الحكومة الحالية في إعادة الإعمار، ليس نتيجة قلة المساعدات (فالمساعدات كثيرة)، وليس نتيجة القصور الإداري؛ بل نتيجة سياساتٍ متعمدة، هدفُها إبقاءُ الخراب لكي يسخط الناسُ على "حزب الله" المتسبِّب بذلك! لا داعيَ لتتبُّع خطاب السيد نصرالله بالردّ والتفنيد، بعرض وجهة نظر الفريق الذي هاجمه السيد نصرالله واتّهمه بالخيانة؛ بحيث بدت مطالبتُهُ بحكومة الوحدة الوطنية نتيجةً متواضعةً للمقدّمات التي ذكرها. فقد ردَّ عليه عدةُ متحدثين، وأولُهُم الرئيس السنيورة الذي اتّهمه بالتجني ومجانبة الحقيقة بشأن موقف الحكومة في الحرب وبعدها. الضروري هنا فَهْمُ التوقيت، والظروف. إذ ما قاله السيد نصرالله سبق لمتحدثين كثيرين من نواب "حزب الله" ومحازبيه وأنصاره والجنرال عون أنْ قالوهُ في الأسابيع الأخيرة. يتصورُ السيد نصرالله أنّ المشرق ينقسمُ إلى معسكرين: المعسكر الأميركي/ الإسرائيلي، والمعسكر الإيراني المقاوم. وفي حين تقف الشعوب العربيةُ و"حماس" و"حزب الله" في معسكر المقاومة، تقفُ بعضُ الأنظمة العربية في معسكر أميركا وإسرائيل. وقد استثنى السيد نصرالله السعوديين هذه المرة من معسكر المتآمرين على المقاومة لأنّ السفير السعوديَّ في لبنان اجتمع به، وتصالحا بعد جفاء؛ لكنه طلب من السفير كما قال، ومن أجل التهدئة، أن يُقنعَ "الفريقَ الحاكم" بالإصغاء لمطالبه. المهمُّ أنّ المواجهةَ بين المعسكرين مندلعةٌ الآن، والمشروعُ الأميركي/ الإسرائيلي في مأزقٍ عميق نتيجة المقاومة في العراق (أيدها السيد نصرالله لأول مرةٍ منذ مدةٍ طويلة)، ونتيجةَ مقاومة "حماس" في فلسطين، و"حزب الله" في لبنان. ولذلك يكونُ من الضروري من أجل إكمال الانتصار القيام بخطوةٍ جديدةٍ في لبنان، وفي الداخل هذه المرة. إذ رغم إصرار السيد نصرالله على بقاء المقاومة في الجنوب وقوتها؛ فإنها لن تستطيع إنشاب معركةٍ ضد إسرائيل؛ لأنها ستصطدمُ بالقوات الدولية. إنما الذي يضرّ المعسكر المعادي ويقع في نطاق قدرة "حزب الله" وحلفائه (الجنرال عون، وأنصار سوريا)؛ يتمثل في الظرف الحالي بإسقاط الحكومة اللبنانية في الشارع، أو بشلِّها من طريق الثلث المعطِّل. فبحسب الدستور اللبناني لا يحظى أيُّ قرارٍ في مجلس الوزراء بالموافقة إن عارضته أكثرية الثلث. والتخوف ليس من تعطيل القرارات فقط؛ بل ومن أن يتغيبَ الثلثُ هذا عن مجلس الوزراء فلا تنعقدُ جلساتُه. ورئاسةُ الجمهورية الآن بيد "حزب الله" بمشاركة سورية، ومجلسُ النواب في أيديهم (رغم أنّ الأكثرية فيه لفريق 14 آذار) لأنّ الرئيس بري مضطرٌّ لمسايرتهم فيما يطلبونه منه؛ ومن ضمن ذلك برنامجُهُ للقاء التشاوري والذي نصَّ على موضوعين: حكومة الوحدة، وقانون الانتخاب -أي نفس ما طالب به السيد نصرالله في حديثه. وهكذا لم يبقَ خارج سيطرتهم غير رئاسة الحكومة؛ التي يريدون في هذه الخطوة شلَّها تمهيداً للسيطرة عليها في المستقبل من طريق أحد أنصارهم من السُّنة. وهكذا فإنّ تأمُّلَ المشهد الإقليمي الحالي يشير إلى أنّ إيران تريدُ الحلولَ محلَّ سوريا في لبنان، ليُضافَ ذلك إلى أوراقها العديدة في تجاذُباتها مع الولايات المتحدة، والتي ستعود للاشتعال الآن إذا صحّت قصةُ العقوبات. ولدى الرئيس السنيورة، وفريق الرابع عشر من آذار، عدةُ همومٍ الآن، بعضُها استراتيجي، وبعضُها آنيٌّ وعاجل. الاستراتيجي هو الحيلولةُ دون أن يعودَ لبنان ساحةً للصراع الإقليمي؛حتى بعد تحييد جبهة الجنوب. أمّا الآني والعاجل الأول فيتمثلُ في تشكيل المحكمة ذات الطابع الدولي، لمحاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري. إذ بعد مباحثاتٍ استمرت ثلاثة أشهرٍ وأكثر، ظهرت مسوَّدةُ مشروعٍ ما تزال لروسيا اعتراضاتٌ عليها. لكنْ بمجرد وصولها إلى الحكومة اللبنانية تقدم رئيس الجمهورية بثلاثٍ وعشرين ملاحظة. ويحتاج المشروع إلى موافقة الحكومة اللبنانية، وإلى موافقة مجلس النواب اللبناني. وهكذا لا يستطيع "الفريق الحاكم" (بحسب تعبير السيد نصرالله) المغامرة بإدخال ثلثٍ (معطِّلٍ أو ضامن) إلى مجلس الوزراء قبل إقرار المشروع عندما يأتي من مجلس الأمن (ولا ندري متى يأتي)، وهذا بالإضافة إلى العقبة الكأداء المتمثلة برئيس الجمهورية، والتي تقول بحسب بعض الآراء إنه حتى العرض على مجلس الوزراء يحتاج إلى الموافقة من الرئيس! وهناك محاولاتٌ محمومةٌ منذ شهرين ومن جانب سوريا وأنصارها في لبنان (وقد ذكر الرئيس بشار الأسد في أحد أحاديثه أنه لا حاجة لتشكيل المحكمة قبل صدور القرار الاتهامي) لإسقاط الحكومة الحالية لمنع الموافقة اللبنانية على تشكيل المحكمة! وهناك محنةٌ أو امتحانٌ ثانٍ إذا صحَّ التعبير. فالرئيس السنيورة والنائب سعد الحريري على الخصوص، وقوى 14 آذار على العموم، لا يميلون لاستخدام الشارع في مواجهة الشارع، خشية الحساسية السُّنية في ملفّ اغتيال الرئيس الحريري بالذات وما يمكن لذلك أن يؤدي إليه من اضطرابٍ، لن تحولَ دونه تطميناتُ السيد نصرالله؛ بل هي التي تبعث لدى اللبنانيين تخوفاتٍ على المصير. فلا حول ولا قوة إلاّ بالله.