في مصر الثورة سنة 1952، يُغادر فاروق الأول وعائلته إلى إيطاليا على يخت "المحروسة"، وفي وداعهم الضباط الأحرار، برغم اتهام نظام حكمه بالظلم والفساد وحدوث هزيمة 48 في عهده. وفي عراق الثورة سنة 1958، يُقتل فيصل الثاني، وهو ابن 23 سنة، وخاله عبد الإله وباقي أفراد الأسرة بمن فيهم جدته في قصر الرحاب ببغداد على يد الضباط الأحرار، ثم توضع الجثث في سيارة "بيك آب"، وفي الطريق تسحب الجماهير جثة عبد الإله، ثم تعلّق ما بقي منها على مدخل وزارة الدفاع. قلما تجد ثورات فظيعة كثورات العراق. يتساوى في الفظاعة العراقية الشيوعيون والقوميون والبعثيون والناصريون. فعدا المشانق والرمي بالرصاص، هناك السحل في الشوارع حتى الموت والقتل بأحواض التيزاب، والقتل بالتفجير وتعليق الجثث على أعمدة الكهرباء. ولا يكتفي الثوار بالإطاحة بالحكم السابق، بل باجتثاثه. ولم يأتِ عبثاً قانون "اجتثاث البعث" في العراق الحالي، بل هو طبع وسمة. ومن يطالع في تاريخ العراق الحديث، يلاحظ: قُتل سنة كذا، عقب الكثير من الأسماء. ومن نجى وكتب مذكراته، فإنه يشير إلى الرؤوس المتطايرة بين الحين والآخر كأنه كتاب في تاريخ المسالخ! لم يختلف الحال اليوم، فالتفجير يطال تجمّعات الأطفال، وثقب الأجساد يتم بآلةٍ يخشى المرء من قسوتها على الجدران. ولا يمكن اعتبار الاحتلال سبباً في توحّش العراقيين بعضهم على بعض، والذي حصل أن الاحتلال أخرج الوحش من قمقمه. ورغم فظاعة حرب لبنان الأهلية، إلا أن الفرقاء توصّلوا إلى هدنة فيما بينهم كلما بُثت أغنية لفيروز أو عُرضت مباريات كأس العالم، بينما ازدادت الأكفان في العراق في شهر رمضان الكريم. وليس تجنياً القول إن المأساة بدأت من العراقية وانتهت إليها، فالذين ولغوا في الدماء وشنّوا الحروب بالأمس، كانوا أطفالاً بين يديها، والذين يفجّرون اليوم ويثقبون الأجساد كانوا أطفالاً تحت ذراعيها. تشكّل القادة والعسكريون والأمنيون والكيمياويون والطائفيون والإرهابيون وحتى الذين يزعقون في مظاهرات فارغة، حين كانوا تلاميذ في مدارس الأمهات حتى لو تدخلت الظروف بعد ذلك، فالأم أستاذ الأساتذة، كما قال حافظ إبراهيم. رحلوا أطفال الأمس وبقيت الأمهات والزوجات وحدهن وانتهت المصائب إليهن. فوفق دراسة ميدانية أجرتها منظمة "عراقيات" أن في العراق 2,300,000 أرملة، قتل أزواجهن خلال حرب الخليج الأولى والثانية والغزو الأميركي والعمليات الإرهابية، حتى بات العراق بلداً للأرامل، وطبيعي أن يكون بلداً للثكالى أيضاً. مهم أن تزرع العراقية الرحمة في جوف طفلها وترضعه رقة القلب، وأن تجعل إيذاء الآخرين خطاً أحمر، حتى لو كان مجرّد تهديد بريء بذبح طفل آخر. فالكلمات تكبر مع الطفل، وما كبر معه تصبح أفكاره، وأفكاره تصبح طباعه، وطباعه تتحول إلى أفعاله. وأن تشحنه بمفاهيم جديدة، فالبكاء ليس مخلوقاً للنساء فقط، والقوي من يمسك نفسه عند الغضب وليس من يكسر رأس ابن الجيران، وخير للمرء أن يكون مظلوماً من أن يكون ظالماً، والعين بالعين ليس أولى من الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. وبدل أن تسكته بمسدسات وقنابل وسيوف بلاستيكية ليتلهّى بها، مفيد أن تهديه سيارة نجدة وشاحنة رمل وأدوات طبيب يكبر معها.