شغل "المشروع النهضوي الحضاري" العديد من المفكرين العرب، وفي أبريل 2001 اجتمع لفيف منهم في مركز "دراسات الوحدة العربية" لتحديد ملامح جديدة لهذا المشروع، بعد أن أخفقت -كما يبدو- المشاريع السابقة! اشترك في الندوة بعض من يمكن اعتبارهم من أسباب فشل الفكر النهضوي المعاصر، وهذا حديث مؤجل، ولكن أوراق الندوة المنشورة قدم لها الأستاذ عبدالإله بلقزيز، الأستاذ الجامعي في المغرب، وعرض بعض الأفكار النهضوية التي نود إثارة النقاش حولها. فالوقت ربما كان اليوم مناسباً لتدارس أسباب تعثر هذه المشاريع وبخاصة أن الكثير من المثقفين والإعلاميين يهللون في كل مقال وحوار متلفز لفشل "مشاريع التغيير الأميركية" في العراق وأفغانستان وكل منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي! إن الكتاب الصادر عام 2001 الذي يتضمن أعمال الندوة ضخم، إذ يقع في نحو 1150 صفحة، سنتحدث عن بعض أوراقه في مقالات قادمة، وحسبنا في هذا المقال، أن نتناول بعض الملاحظات على المقدمة التي كتبها د. عبدالإله بلقزيز للعمل المنشور. يستعرض د. بلقزيز في مقال طويل بعض جوانب الفشل في "المشروع النهضوي"، الذي بدأ مع محمد علي في مصر ويقول جازماً: "إن المشروع ليس قابلاً للاستئناف اليوم على القواعد ذاتها"... فلابد إذن من فكر جديد! إن إعادة البناء، يقول د. بلقزيز، هي العنوان الرسمي لهذا المشروع، فما طبيعة هذه الرؤية المطلوبة؟ على هذا المشروع أن يتجنب أولاً أوجه إخفاق المشروع المنهار. "فنحن لم نحقق وحدة عربية، ولا حققنا الديمقراطية، ولا بلغنا التنمية المستقلة، ولا وفرنا العدالة الاجتماعية، ولا استكملنا الاستقلال الوطني والقومي، ولا أنجزنا التجدد الحضاري". ولكن د. بلقزيز لا يتعمق في دلالة هذا الفشل أو صعوبته، وربما استحالة بعض هذه الأهداف. ولا يهمه كثيراً ما جرى في الواقع الدولي والعربي السياسي والاقتصادي والقانوني، وما جرى داخل العالم العربي نفسه من شد وجذب ومشاكل وكوارث، فيقول: "إن مطالب النهضة المطروحة، منذ القرن التاسع عشر وعلى امتداد القرن العشرين، ما زالت -حتى اليوم- مطالب تفرض نفسها علينا. ومعنى ذلك كله أن أهداف النهضة السابقة ما زالت هي أهداف مشروعنا النهضوي الذي نسعى إليه"! ولكن هل يعقل أن الأهداف النهضوية المعلنة قبل قرن أو قرنين، رغم كل التجارب العربية المريرة ورغم كل الإخفاقات، لا تزال صحيحة؟ ما قيمة تجاربنا السياسية والاقتصادية والقانونية إذن؟ ومن يعتبر من الإخفاقات؟ إلا أننا بالطبع، لا نستطيع أن نقول غير هذا في ندواتنا وإلا تفرق شملنا! في هذه المقدمة، لا يولي د. بلقزيز في حديثه عن تعثر المشروع النهضوي، أشد جوانب التعثر إيلاماً في رأيي، ألا وهو فشلنا في "التجدد الحضاري". وفهمي المتواضع لهذا التجدد يشمل مثلاً، تحديث الفكر والمؤسسات والتعليم، وتحرير المرأة، وسيادة القيم العصرية في العلاقات الاجتماعية والفكرية ونصوص القوانين. ولكن الباحث لا يلتفت إلى فشل التجدد الحضاري إلا في آخر النقاط، ويفهم "التجدد الحضاري" على نحو مختلف تماماً، بل يرى أننا حققنا تقدماً مذهلاً في هذا المجال! يقول: "إذا أخذنا أخيراً -وليس آخراً- مبدأ التجدد الحضاري، سنكتشف أن تحولاً كبيراً حصل على صعيد وعي هذا المبدأ في الخطاب النهضوي الجديد، والتحول هذا متمثل في جهد طويل بُذل على صعيد إدراك صلات التحلل والتواشج بين العروبة والإسلام، كمكوّنين رئيسين متضافرين للهوية القومية للأمة. إن تلك العلاقة التنابذية بين العروبة والإسلام مجافية للطبيعة، بل تزوير لماهية الأمة، وشكل من أشكال الاستجابة الأيديولوجية لمطالب السياسة الظرفية". غير أن الإشكال بين العامل القومي وجذوره وأهدافه، والعامل الديني الموروث والمسيس اليوم ليس "تزويراً لماهية الأمة". وما حدث من تفاهم حول هذين العاملين بين مثقفي التيارين لا يزال محصوراً داخل قاعات الندوات، وفي بطون الكتب وفي عالم الأماني. فهل هذه دولة العروبة أو الدولة الليبرالية أو الدولة التقدمية هي نفس دولة الإسلام؟ وهل أسس ومستلزمات تحديث المجتمع العربي تتطابق مع ما نقرأ وما نسمع عن "النظام الإسلامي" و"نظام الخلافة" و"حكم الشريعة"، الذي تتحدث عنه أحزاب ومؤلفات الإسلام السياسي؟ وهل ينبغي لنا أو يتحتم علينا أن نتخلى في بلداننا، عن الطابع الليبرالي الصريح سياسياً واجتماعياً وثقافياً وفكرياً وقانونياً، إرضاء لصفقات التوافق بين مختلف التيارات العقائدية وندوات الحوار القومي- الإسلامي، وما تتوصل إليه من شعارات وتسويات على حساب الحداثة والحريات؟ أما كان هذا التمييع الفكري والسياسي أصلاً، من الأسباب الجوهرية في فشل مشروع النهضة؟ وهل يمكن لأي مجتمع في منطقتنا أن يتقدم إذا كنا نخلط بين الوطني والقومي والديني وربما العالمي، وتكون النتيجة ألا نعمل شيئاً، أو على الأرجح نسهل هيمنة الجماعات الدينية الأصولية في كل شيء! إن مثل هذا الخلط واسع التداول في صحافتنا وإعلامنا ومنشوراتنا، ولكنه في الحقيقة مخرج توافقي توفيقي ترضوي، لا يمكن أن ينجم عنه على مستوى الواقع والتطبيق، إلا المزيد من الصراعات والانقسامات وترسخ الاستبداد والجمود، باسم الوطنية والعروبة والإسلام! وليس واضحاً في سياق الخلط والتنازلات والتسويات، هل المطلوب "تعريب الإسلام" أم "عوربة الدين"، وهو ما ترفضه بشدة أحزاب الإسلام السياسي، ضمن حرصها على إبراز عالمية الإسلام و"لا قوميته"، أم "أسلمة العروبة"، التي قد تعني في النهاية الهيمنة الدينية المتشددة على كل قيم وقوانين التوجه القومي، وقد كانت محاولة التحرر من هذه الهيمنة، بين الأسباب الأساسية، لظهور الفكرة القومية الحديثة، كإطار عصري يجمع بين أتباع مختلف الأديان في دولة علمانية، أو على الأقل غير خاضعة للدولة الدينية العقائدية... القادمة! ولاشك أن "صلات التواشج بين العروبة والإسلام" مهمة جداً في فهم تطور تاريخ العرب والمسلمين، وبخاصة إن فهمنا العروبة في إطارها البشري واللغوي والقيمي. ولكن هل يصلح هذا التمازج الديني القومي أساساً لبناء دولة عصرية في العالم العربي؟ وهل طور "القوميون" و"الليبراليون" و"التقدميون العرب"، ما يكفي من قوانين وأسس ثقافية وقيم اجتماعية دنيوية عصرية تجعلهم بمنأى عن سيطرة الأحزاب الإسلامية؟ لا أعتقد هذا على الإطلاق! وهكذا يتجلى للقارئ أن د. بلقزيز يكتب حول ماضي ومستقبل العرب بلا منهج! فلا هو بالإسلامي ولا هو بالليبرالي، إلا بقدر ما تستلزم المقدمة المكتوبة، لكتاب ينشر أعمال ندوة، يعقدها منتدى قومي! وعليه إرضاء كل الدول وكل الاستبداديات العربية وكل ديناصورات الفكر! ولكن حتى لو افترضنا صحة وحيوية كل هذه الأدوار والتيارات، فهل يمكن وضع مشروع نهضوي حقيقي يجمع بينها؟ وهل يمكن للإنسان العربي المعاصر في الكويت والبحرين والمغرب ومصر ولبنان والأردن، أن يكون ليبرالياً قومياً إسلامياً تقدمياً في الوقت نفسه؟ أم أن الظروف تحتم "الرسوّ الحضاري" و"الحسم السياسي والثقافي"؟ وفي هذا المجال بالذات، هل يمكن الإفلات من النظام الليبرالي؟ أما آن الأوان مثلاً لأن نصارح أنفسنا نخبة وجمهوراً، بأن عهد التحليلات السياسية والشعارات الغامضة والخلطات الغربية قد انتهى، وأننا لابد أن نتقبل فكر عصرنا دون لف ودوران؟ ويعاني تحليل د. بلقزيز من اضطراب آخر في تحديد مسؤولية العالم العربي ومسؤولية الدول الأجنبية أو الاستعمارية في عرقلة النهضة. فهو يهاجم التدخل الخارجي رغم أنه يقر بأن تعثر العالم العربي "ما كان ليجري بالسرعة التي جرى بها لو لم تكن قد تهيأت له شروط داخلية مؤاتية". ومن المؤسف أن د. بلقزيز لا يقف مطولاً أمام مغامرات بعض القادة العرب وبعض الأحزاب وما جرت على العالم العربي من كوارث. كما أنه يرى أن الخطر الصهيوني قد "حال دون أن تكون الحياة حياة طبيعية في قسم من البلاد العربية"، وأن هذا الخطر قد حال كذلك دون "أن يرتفع صوت حقوق الأفراد على صوت حقوق الشعب والأمة". وهذه دول عربية معدودة لا تزيد على الأربع والست، فماذا عن 14 دولة أخرى بعيدة جداً عن الخطر الصهيوني، يهملها د. بلقزيز في تحليله المجامل! ألا يتحتم علينا، ونحن بصدد وضع "مشروع نهضوي" للعرب وللمسلمين، أن ندرك وندرس مثل هذه الحقائق لكي نستفيد منها، بدلاً من الغوص في التنظير والمثاليات التي لا تصلح إلا للمحاورات التلفزيونية والندوات الموسمية! Classifications Comments and Actions Present in Collection Proofed. Originally received in RAPIDBrowser on Fri 03 Nov 2006 19:26 GST This item was derived from: خليل علي حيدر//الأحد//5-11-2006