الخلافات والعلاقات المتوترة التي تكشفت للعلن بين الحكومة العراقية التي يقودها الشيعة، وبين إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، أظهرت مدى عمق الهوة بين ما تتوقعه الإدارة من تلك الحكومة، وبين قدرة هذه الحكومة -أو رغبتها- في الوفاء بتلك التوقعات. فخلال العشرة أيام الأخيرة فقط، رفض رئيس الوزراء نوري المالكي فكرة الجدول الزمني التي يقترحها الأميركيون لإنجاز بعض المسائل العاجلة، وأمر القادة العسكريين الأميركيين برفع نقاط التفتيش التي أقاموها حول "مدينة الصدر" (مدينة الثورة)، للبحث عن الجندي الأميركي المختطف، وعن قائد إحدى فرق الموت الشيعية. بل ألقى المالكي بمسؤولية الموقف المتدهور في العراق على الأميركيين، وطالبهم بتحويل السيطرة على عمليات الجيش العراقي إلى العراقيين. وهذا التباعد بين الإدارة الأميركية وحكومة المالكي، يحدث رغم الاعتماد المتبادل بينهما. وما من شك في أن المالكي يريد من خلال تبني مثل هذه المواقف نيل رضا شركائه من القيادات الشيعية والجماهير الساخطة التي تمثلها، وخصوصاً على ضوء الضغوط التي يمارسها الأميركيون على الشيعة لتقديم تنازلات للطائفة السُّنية. والمفارقة في الخلافات الناشبة حالياً بين القادة الشيعة والأميركيين أن المستفيدين الرئيسيين منها هم عدوهم المشترك، أي السنة! والجدول الزمني الذي قدمه السفير الأميركي في العراق زلماي خليلزاد، والذي يلقى معارضة من المالكي، يطلب من الحكومة العراقية التوصل إلى اتفاق خلال الشهور القادمة حول أمور منها نزع أسلحة المليشيات، وتحديد طريقة لتقسيم عوائد البترول مستقبلاً، واتباع نهج جديد في التعامل مع البعثيين. لكن من الواضح أن المالكي ليس الشخص المناسب للقيام بدور المصلح الوطني، حيث ظهرت عليه ميول واضحة للعب دور المدافع عن "حزب الدعوة الإسلامي" الذي قُتل الآلاف من أعضائه تحت حكم صدام حسين، كما أنه يتصف بالانطوائية والافتقار إلى السلاسة الطبيعية التي تجعله راغباً في مد يده للسياسيين المنتمين للطوائف الأخرى، وخصوصاً السُّنة. يقول الأميركيون إن المتّبَع حالياً في العراق هو نوع من التكتيكات لتحقق المصالح الذاتية، إذ دفعت عمليات القتل المتبادل بين السُّنة والشيعة، كثيراً من ساسة الطائفتين إلى التراجع عن رؤية الحياة المشتركة بينهما. فالمالكي الذي يفترض أنه يرأس حكومة "وحدة وطنية"، لا يخفي ميوله الواضحة لتقمص دور الرجل المدافع عن مصالح الشيعة، وهو يفعل ذلك بطريقة فجة أحياناً لدرجة دفعت السُّنة والأكراد إلى اتهامه بالطائفية الصارخة. والموضوع الذي يثير قلق الأميركيين والسُّنة أكثر من غيره، هو مقاومة المالكي للضغوط الأميركية الرامية لإقناعه بشن حملة ضد "جيش المهدي" الذي تتشكل منه معظم فرق الموت، كما يقول الأميركيون. ولعدة شهور ظل المالكي يجادل ضد اتخاذ خطوات قوية لحل المليشيات، داعياً للتوصل إلى حل سياسي للموضوع، ومشيراً إلى استعداد الزعيم الديني الشاب مقتدى الصدر أو عدم معارضته لتعقب قادة فرق الموت الذين يقول إنهم منشقون عن "جيش المهدي". خلال تلك الشهور كان الأميركيون مضطرين إلى مساعدة حكومة المالكي سراً لإدراكهم أن البلاد لا يمكن أن تنتظر حتى يتم الاتفاق المذكور، خاصة على ضوء تواصل المذابح بلا هوادة. وكانت نتيجة ذلك أن العلاقات بين الطرفين -الصدر والأميركيين- كانت تبدو وكأنها تقوم على نوع من التسوية القلقة والمتذبذبة. وعدم رضا الأميركيين عن المالكي يتجاوز بكثير موقفه المتذبذب بشأن المليشيات الشيعية. فعندما أقسمت حكومته اليمين في العشرين من شهر مايو الماضي، قال خليلزاد والجنرال "كيسي" إنه ليس أمامها سوى 6 شهور كي تتخذ الإجراءات اللازمة لبناء الدعم الجماهيري والتي تجعل حرب القوات الأميركية والعراقية ضد المتمردين، حرباً يمكن كسبها. وعندما قام الرئيس بوش بزيارته الخاطفة إلى العراق، قال إنه تفرس في عيني المالكي جيداً كي يحدد ما إذا كانت أميركا قد عثرت أخيراً على شريك يعتمد عليه، وأنه اقتنع حينئذ بأن رئيس الوزراء العراقي نجح في الاختبار. ويقول الأميركيون إن هناك القليل من الأمور التي تغيرت منذ أن تولى المالكي المسؤولية، وإنه لا يزال هناك كثير من مظاهر الفساد، لاسيما في ميزانيات الوزارات الحكومية التي يتم استغلالها حالياً، وخصوصاً في وزارة الصحة التي يسيطر عليها مسؤولون يتبعون للصدر، بطريقة يمكن وصفها كنوع من النهب الجماعي المنظم. وفي الأسبوع الأخير أضاف المالكي إساءة جديدة ضد الأميركيين. ففي مقابلاته الصحفية، والتي سبقت مؤتمراً أجراه عبر الهاتف معه الرئيس بوش نهاية الأسبوع الماضي، قال المالكي إن الأميركيين هم المسؤولون عن تدهور الموقف الأمني في العراق، وطالب بتحويل سلطة قيادة عمليات القوات العراقية الحربية إلى العراقيين فوراً، بل إنه طالب أيضاً -وفي تجاهل واضح لتردي شعبية حرب العراق داخل الولايات المتحدة- بإرسال مزيد من الأموال الأميركية لبناء القوات العراقية وتشييد البنية الأساسية للبلاد. والشيء الذي تغفله تعليقات مسؤولي الإدارة الأميركية هو الإشارة إلى الإحباط العميق الذي يحس به القادة الأميركيون بسبب الضعف المتزايد لوحدات الجيش العراقي وعدم انضباطها وارتفاع ظاهرة الغياب والفرار فيها، ما يجعل نصف عدد القوات العراقية، البالغ عددها الآن 137 ألف جندي، غير صالح للمشاركة في القتال، وهو بالتالي ما يضطر الأميركيين للمساهمة بنسبة الثلثين في القوات المنتشرة ببغداد لتنفيذ عمليات حفظ الأمن. وكنتيجة لذلك، ووفقاً لما يقوله القادة الأميركيون في تلك العمليات، فإن حفظ الأمن في بغداد، وبالتالي بقاء حكومة المالكي ذاتها، أصبح يعتمد الآن على القوات الأميركية أكثر من اعتماده على القوات العراقية! جون إف. بيرنز ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مراسل "نيويورك تايمز" في بغداد ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"