سواء كان الكونجرس "الديمقراطي" الذي ربما تتمخض عنه انتخابات الثلاثاء المقبل، سيدشن حملة جديدة لتشريح جسد الحرب الأميركية على العراق أم لا، فإن الذي لا يطاله الشك من قريب أو بعيد، أنها لا تزال تبدو حرباً سرمدية لا نهاية لها، غير أنها ستضع أوزارها يوماً ما. وما دام الحال هكذا، فهل يعني ذلك أننا سنواصل كوننا في حالة حرب؟ وهل لا تزال هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وأفغانستان والعراق، ثم تفجيرات لندن ومدريد وجزيرة بالي وغيرها، سوى صفحات تمهيدية افتتاحية فحسب، لذلك "الموال" الطويل الذي يسمونه "الحرب على الإرهاب"؟ وعلى رغم شدة انتقاد "الديمقراطيين" لمسار الحربين الأميركيتين على العراق وأفغانستان، فإنهم لم يجرؤوا على انتقاد مبدأ "الحرب على الإرهاب" بحد ذاته. ولا نستثني من "الديمقراطيين" كافة، سوى عدد ضئيل من مفكريهم، من أمثال رجل الأعمال الخيّر، جورج سوروس، ممن يرمون مبدأ "الحرب على الإرهاب" نفسه، بالزيف والتضليل. وعلى نقيض ذلك تماماً، يتفق غالبية الأوروبيين مع "سوروس". وقد عبرت من جانبي عن الحجة الأوروبية نفسها المعادية لفكرة الحرب على الإرهاب. وكان المؤرخ العسكري البريطاني المخضرم، "سير مايكل هوارد" على قدر كبير من صدق الحدس والحصافة، في مقاله "ماذا في الاسم؟" الذي نشرته مجلة "الشؤون الدولية" في عددها الصادر بعد أشهر قليلة، من هجمات 11 سبتمبر. فما أن أعلن كولن باول، وزير الخارجية الأميركية حينئذ، باسم بلاده "الحرب على الإرهاب"، حتى كتب "مايكل هوارد" قائلاً: "لقد ارتكب باول خطأً فادحاً لا سبيل لتصحيحه، على رغم طبيعيته. وإذا ما تركنا كل شيء آخر جانباً، فإن في استخدام تلك اللغة، ما يرفع شأن الإرهابيين إلى مرتبة الجنود المخولين شرعاً بشن الحرب، في حين كان الواجب أن يتم التعامل معهم باعتبارهم مجرمين لا أكثر. وبالنتيجة، فقد مجّد كولن باول الإرهاب والإرهابيين، من حيث لا يدري، بسكّه لتلك العبارة في مخاطبتهم". وكما نعلم فإن للعبارات عواقبها ومدلولاتها، لاسيما حين يجري استخدامها من قبل أقوى دولة في العالم. وعليه فليس من شطط أن يشير المرء إلى أن كثيراً من الدماء التي أريقت من بعد، لم ترق إلا نتيجة لاستخدام تلك العبارات. وقد كان واضحاً أن استخدام الإدارة لكلمة "حرب" في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، كان منطلقاً من التعامل العام الدارج معها، بمعنى إعطاء الأوامر للجنود المدربين بالتحرك لقتل الآخرين. وفيما أذكر فقد كنت قد توجهت بسؤال لأحد كبار مسؤولي الإدارة في عام 2002، بقولي له: كيف يتوقع لهذه الحرب على الإرهاب أن تنتهي؟ فأجابني قائلاً: "بإبادة الإرهابيين". وهكذا أدرك المسؤولون الأميركيون منذ لحظة اشتعال هذه الحرب، أنها ليست حرباً بالمعنى التقليدي المفهوم للكلمة، أي مواجهة عسكرية بين جنود رسميين في ميدان القتال. لكن وعلى رغم ذلك، فقد كان قرار تحويل العراق إلى مسرح عمليات رئيسي للحرب على الإرهاب، بين عدة أسباب ودوافع أخرى، ضرباً من ضروب السعي الحثيث والتشبث بخوض حرب من الحروب التقليدية، التي تستطيع أعظم قوة في تاريخ العالم كله، تحقيق فوز حاسم خاطف فيها، أو هكذا صورت لهم مخططاتهم وتوقعاتهم لذلك النزاع. وكنت في الأسبوع الماضي، قد استمعت إلى حجتين قويتين تحاولان التشبث بمفهوم "الحرب" في وصف طبيعة العصر الذي نعيش فيه. فخلال المحاضرة التي قدماها في جامعة أوكسفورد، أصر "فيليب بوبيت"، المؤرخ الأميركي ومؤلف كتاب "درع أخيل"، وزميله "ماثيو دو أنكونا"، محرر صحيفة "سبيكتيتور" البريطانية الأسبوعية المحافظة، على أهمية عدم إجهاضنا لجنين "الحرب على الإرهاب"، بزعم اختلاف طبيعة التمرد العراقي. وأبرزا الرجلان التعارض القائم بين مفهوم الحرب، ومكافحة الإجرام، مع ملاحظة تفضيل الكثير من "الليبراليين" الأوروبيين للمفهوم الأخير على الأول. وجاء في قول "دو أنكونا": "صحيح أن أخطاءً كثيرة قد ارتكبت في العراق. غير أن طبيعة هذه الحرب، هي أنها جديدة كل الجدة بما يحتم وقوع أخطاء كبيرة، لا مناص منها. وليس في الإمكان هزيمة هذا الثلاثي الجديد البشع، المؤلف من الدول المارقة، وأسلحة الدمار الشامل، والإرهاب الدولي، بثلاثي الحرب الباردة القديم، القائم على الاحتواء، والردع، وحظر الانتشار النووي. ذلك أن الإرهابيين إنما يخوضون حرباً سيكولوجية طويلة الأمد علينا، ترمي إلى اختزالنا إلى مجرد دولة إرهابية". ثم مضى "دو أنكونا" للقول: "ليست هذه هي الحرب الباردة، وإنما هي الحرب الدافئة-الباردة". وفي غضون ذلك، تحدث "بوبيت" عما لا يقل عن ثلاث حروب على الإرهاب هي: الحرب على شبكات الإرهاب الدولي، وحرب ثانية على نشر أسلحة الدمار الشامل، ثم حرب ثالثة على الاعتداءات الكبيرة –الطبيعي منها وغير الطبيعي- التي تطال البنى المدنية التحتية، سواء كانت ناجمة عن الهزات الأرضية، وعواقب الاحتباس الحراري، أم بسبب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. وفي حديث كليهما، ما يتجاوز كثيراً حدود العزف الجماعي الثلاثي المنسوب للرئيس بوش ونائبه ديك تشيني ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد، فيما يتصل بشن الحرب على الإرهاب. وكما قال لنا المتحدثان، فهذه حرب طويلة الأمد، تمتد لأجيال، وتتطلب قدراً كبيراً من الإرادة الوطنية والجلد والثبات. غير أنهما لم يقنعاني على رغم ذلك كله، بجدوى المحافظة على مفهوم "الحرب"، خاصة وأنه مفهوم خاطئ من الأساس في وصف مكافحة الإرهابيين. تيموثي جارتون آش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ الدراسات الأوروبية بجامعة أوكسفورد وزميل أول بمؤسسة هوفر بجامعة ستانفورد. ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"