لا حديث للعاصمة السودانية في هذه الأيام أكثر أهمية من خبر طرد حكومة السودان إيان برونك المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة والرجل الذي ظل يشرف على تطبيق نصوص اتفاقية "نيفاشا" الموقعة قبل أكثر من عامين. جاءت فكرة إبعاد برونك أولاً من قيادة القوات المسلحة، ثم تولت الأمر وزارة الخارجية التي أعلنت للمبعوث الدولي أنه ما عاد شخصاً غير مرغوب في بقائه في السودان. وعلى الفور غادر برونك السودان. ومحور القضية أن المبعوث الدولي سجل على (الإنترنت) رأيه حول تطورات الوضع المتدهور في دارفور، فتحدث عن هزيمة للواء من الجيش السوداني على يد قوات من المتمردين كان من نتائجها أسر القائد الأعلى للواء وعشرات من ضباطه. ولم يكتف المبعوث بإيراد الوقائع وحدها بل أضاف وجهة نظره وهي أن معنويات الجيش السوداني في دارفور وصلت إلى أدنى المستويات وكان هذا التعليق هو قاصمة الظهر. إن الترتيبات الإدارية اقتضت أن يتولى منصب الأمين العام في السودان الدبلوماسي الإثيوبي تايه زيريهون الذي كان نائباً لبرونك، ولكن لابد أن يقوم الأمين العام الحالي بتعيين ممثل آخر له في السودان أو يترك الأمر للأمين العام المقبل الذي سيتولى المهمة في مطلع العام القادم. المهمة التي كان يتولاها برونك تعد من أكبر مهام المنظمة الدولية، فقد كان يشرف سياسياً على قوى عسكرية أممية تنتشر في ثلاث بقاع مهمة في السودان، هي الجنوب ثم جنوب النيل الأزرق وجبال النوبة، وأضيفت لمهامه دارفور بعد تأزم الوضع فيها، إلى جانب مسائل الأمن وتنفيذ اتفاقيات وقف إطلاق النار وما إليها. كان على المبعوث الأممي أن يراقب عن كثب خطوات تطبيق ما جاء في اتفاقية "نيفاشا"؛ مثل حقوق الإنسان والانتقال للحكم الديمقراطي وغير ذلك. ولا جدال في أن ما بينه وبين حكومة السودان لم يكن على الدوام (سمناً ولبناً) كما يقولون، فالرجل ما كان يفوت فرصة لنقد التباطؤ في تنفيذ الاتفاقية أو خروقات حقوق الإنسان، مما جعل العلاقة بين الطرفين في مجملها فيها قدر من الشد والجذب. ولعل ما حدث كان فرصة للخرطوم للخلاص من مبعوث أممي لا يسكت على الخطأ. إن برونك الدبلوماسي الهولندي الذي عرف في بلاده برجل المهام الصعبة، كما لقب أحياناً أخرى بوزير الضمير الوطني لحماسته للضعفاء، أدى مهمته في السودان بإقتدار لا يمكن نكرانه، ومن أمثلة نشاطه وحبه للعمل أنه مثلاً كان يطير في الصباح إلى دارفور فيزور المناطق الساخنة فيها ثم يطير مرة أخرى لجنوب السودان ويعود مساء ذات اليوم ليسارع إلى مكتبه يعد التقارير للأمين العام للمنظمة الدولية... ورجل بهذا الإخلاص والجد لابد أن يكون السودان قد فقد فيه صديقاً صدوقاً في ظرف هو أحوج ما يكون فيه لذلك النوع من العلاقة. لقد انقسم الناس في الخرطوم في تلقيهم لخبر إبعاد برونك. وبعيداً عن أجواء الحزب الحاكم والمقربين إليه، فإن الآخرين لم يسعدوا بقرار الإبعاد، ورأى كثيرون أنه قرار لم يكن له ما يبرره خصوصاً وقد اعتذر الرجل كتابة عن تسجيل وجهة نظره حول معنويات الجيش في دارفور وانحطاطها. ما نسجله للأيام هو أن الحزب السياسي الشريك الأول في الحكم وهو الحركة الشعبية لتحرير السودان (الجنوب) أعلن أنه لم يشارك في إصدار قرار إبعاد برونك ولا يوافق عليه. وقبيل مغادرة المبعوث الدولي للخرطوم زاره أكثر من قائد من قادة المعارضة للوداع وتعبيرا عن نوع من الرفض لقرار الإبعاد.