أشارت بيانات وزارة الداخلية العراقية إلى أن عدد القتلى المدنيين ربما قفز إلى رقم قياسي خلال شهر أكتوبر الماضي. وذكرت أن 1289 عراقياً قتلوا خلال الشهر الماضي، وذلك بارتفاع نسبة 18% عن شهر سبتمبر 2006. وهذه البيانات لا تشمل جميع أعداد القتلى الذين يسقطون في أية أعمال عنف، وإنما فقط الذين يعتبر مقتلهم نتيجة قتل سياسي أو طائفي أو عرقي! وتأتي هذه البيانات بعد الإعلان -منذ أسابيع- عن أن عدد القتلى العراقيين، قد وصل إلى 655 ألفاً خلافاً لما تعلنه المصادر الأميركية! وفي الوقت الذي أُعلنت فيه بيانات وزارة الداخلية العراقية الأخيرة، كان التقييم الأميركي للوضع في بلاد الرافدين يشير إلى "أن العراق يغرق في الفوضى". فالمدن تتعرض "لحملات تطهير عرقي تبلغ مستوى غير مسبوق من العنف"! وقبل ذلك بقليل كانت واشنطن تقترح حكماً ذاتياً ثلاثياً في العراق. فالخيارات التي نوقشت في الأيام الأخيرة، ركزت على زيادة مهمة في عديد القوات الأميركية والعراقية التي تنتشر في العاصمة بغداد، إضافة إلى منح مزيد من الحكم الذاتي للشيعة والسُّنة والأكراد من دون تقسيم البلاد، ووضع أسس واضحة لتقاسم عائدات النفط بين الأقاليم الثلاثة، والعفو عن المطلوبين، ومن ضمنهم الذين شنوا هجمات على القوات الأميركية والعراقية! هل جاءت القوات الأميركية إلى العراق لتحقيق هذه الأهداف أم لإقامة ديمقراطية وحرية في البلاد وتخليصها من النظام الشرير كما كانوا يقولون؟ هل جاءت من أجل الحكم الذاتي أم من أجل إنقاذ البلاد؟ هل جاءت من أجل التطهير العرقي أم لتطهير البلاد من الديكتاتوريين؟ وهل جاءت لحماية المدنيين من المجازر الجماعية والقتل والإجرام والإرهاب أم لتعميم الإرهاب وصولاً إلى هذا العدد من الضحايا؟ وهل جاءت من أجل الأمن والاستقرار أم من أجل الوصول إلى الفوضى؟ وهل جاءت قوات الاحتلال من أجل توزيع عائدات النفط بشكل عادل، أم من أجل سرقتها وتبديدها لتفوح رائحة الفضائح دون أن تصل التحقيقات في دولة "الشفافية" ورافعي شعار مكافحة الفساد إلى أية نتيجة؟ وهل جاءت من أجل إخراج العراقيين من سجون صدام أم من أجل إدخال كثيرين إلى سجون قديمة وممارسة أبشع أنواع الممارسات ضدهم؟ وهل جاءت من أجل تعميم الرفاهية أم من أجل تعميم الفقر؟ وهل جاءت لبناء شرق أوسط جديد، ينطلق من العراق الديمقراطي، أم لتقسيم المنطقة وإغراقها في الفوضى انطلاقاً من العراق؟ وهل جاءت القوات الأميركية إلى العراق بالتحالف مع بعض القوى المتحالفة مع إيران لتحرير العراق من صدام وتسليم البلد إلى إيران، أم لحماية العراقيين، وهي الآن تتخبط في أزمات مع إيران، وتستمر في مواجهة الذين لا يماشون السياسة الإيرانية؟ الفوضى في العراق، هي نتيجة الفوضى الفكرية والسياسية والإدارية والعبثية في الإدارة الأميركية. الفوضى في العراق هي نتيجة الغرور والادعاء والغطرسة والمكابرة والحقد الذي يسيِّر عقول أركان الإدارة الأميركية. الفوضى في العراق هي نتيجة "الصمم" الأميركي المتعمَّد، حيث لا يريد أحد في الولايات المتحدة أن يستمع إلى رأي أو نصيحة أو رؤية. فهم الخلاقون والمبدعون والمفكرون والمخططون والملهمون والمرتبطون بعلاقة مباشرة مع الله، فليسوا بحاجة إلى علاقة مع بشره! نعم هذه هي الحقيقة وتصرفاتهم اليوم تدل على ذلك. كنت في جولة عربية أوروبية منذ مدة، وسمعت كلاماً مذهلاً من مسؤولين كبار. قالوا معلومات عن اتصالات بين الأميركيين وجماعة صدام حسين! وأنها قطعت شوطاً متقدماً. والنقاش يدور حول تغيير اسم حزب البعث (كانوا في جو اجتثاث البعث، أصبحوا اليوم في جو استمالة البعثيين شرط تغيير الاسم...)، وأنهم يخططون لمواجهة مع مقتدى الصدر. بعد فترة وجيزة، بدأنا نشهد الحملة ضد هذا الزعيم الشيعي الشاب، الذي كان قد قام بزيارة إلى المملكة العربية السعودية. وبدأنا نرى جماعة صدام على شاشات التلفزة، ونقرأ الرسائل والقصائد التي يرسلها صدام من سجنه إلى زعماء عشائر، ونتابع الاجتماعات التي يشارك فيها "البعثيون" والنقاشات التي تدور، والتي تعبر عن إفلاس أميركي كامل في ظل ورطة أميركا في مواجهتها لكل من الملفين النووي الإيراني، والنووي الكوري الشمالي! لقد باتت الخيارات محدودة جداً أمام الإدارة الأميركية. وعامل الوقت ليس لمصلحتها، وبالتالي ليس لمصلحة العراق أيضاً الغارق في الفوضى والقتل والتوتر العرقي. ولا يمكن تبرير الفشل في بناء القوات العراقية وعدم قدرتها على المواجهة بأن ثمة اختراقات كبيرة في صفوفها وذلك لسببين أساسيين: 1- عندما طرح كثيرون هذه المسألة منذ بداية الطريق لم يعرها الأميركيون أي اهتمام. كانوا مهتمين بأمور أخرى. كان الانتقام هاجسهم. وكانت القوة أساس تحركهم. وكان النفط شهوتهم. اليوم باتوا يتحدثون عن اختراقات لجماعات موالية لإيران، أو لجماعة مقتدى الصدر. وبالتالي فإن هذه القوات لا تستطيع أن تطلق النار على نفسها، أي على إخوانها ورفاقها ومحازبيها! 2- القوات العراقية ستتشكل من أهل البلد. وأهل البلد معروفون وهذه هي مواقفهم. إذاً ما العمل؟ هذه نتيجة للخطأ التاريخي، الذي ارتكب بحل الجيش العراقي من الأساس وتدفيع الناس ثمة سياسة صدام حسين ودفعهم إلى هذا الموقع أو ذاك، إلى هذه الجهة أو تلك، فكيف إذا تحدثنا عن الإذلال النفسي والمعيشي الذي تعرض له هؤلاء مما دفعهم إلى الارتباط بقوى تملك الإمكانات المالية وغير المالية؟ وكل الممارسات الأميركية جعلت الثقة مفقودة بأصحابها والاستعداد قائماً لرفضها من قبل البعض ومواجهتها من قبل بعض آخر، الأمر الذي أفادت منه القوى التي تستغل الوضع في العراق وتمسك بأوراق مهمة فيه وتمارس من خلالها سياسة ضغط أو ابتزاز في سياق مواجهتها مع أميركا وبشكل خاص إيران وسوريا، كما أن دولاً أساسية في المنطقة، كان يمكن أن تكون شريكة حقيقية في الحل تضررت من جراء هذه السياسة الأميركية الحمقاء. ليس ثمة حل إلا الحل السياسي الذي يقر بحقوق كل العراقيين ويحفظ التنوع في البلاد، وإلا فإن الوضع سينتقل من الفوضى والتطهير العرقي اليوم ليصل إلى تفتيت وتقسيم. وإذا كان البعض يعتقد أن هذا الأمر صعب لأسباب عديدة متصلة بمواقف الدول المجاورة وحساسيتها، فإن ما يسمى حكماً ذاتياً يروج له يصبح لاحقاً شكلاً من أشكال التقسيم تتناحر فيه الأقاليم حول أمور كثيرة ولا تتوقف دورة العنف في البلاد. هذه هي وعود الإدارة الأميركية الناجحة!