ضربت طائرات مجهولة الهوية، مدرسة دينية إسلامية في قرية "دامادولا" في منطقة "باجور" الباكستانية، وذلك في تمام الساعة الخامسة من فجر يوم السابع من شهر شوال الحالي. وقد قتل في الحادثة اثنان وثمانون طالباً، منهم 12 شخصاً دون العشرين (كما ذكرت ذلك جريدة "الفجر" الباكستانية الناطقة بالإنجليزية). وتنقل الجريدة وكذلك بعض وسائل الإعلام الأخرى عن المتحدث باسم الجيش الباكستاني الجنرال شوكت سلطان أن العملية قامت بها طائرات تابعة لسلاح الجو الباكستاني، أما عضو البرلمان الباكستاني، صاحب زاده هارون راشد، فقد صرح لنفس الجريدة بأن العملية الهجومية تمت على مرحلتين، الأولى إثر قصف جوي من قبل طائرات (بدون طيار) تابعة لحلف الأطلسي، والثانية بعد حوالي خمس عشرة دقيقة، من قبل طائرات هيلوكبتر تابعة للجيش الباكستاني. وذكرت مصادر الجيش الباكستاني أن مدير هذه المدرسة "مولاي لياقت علي" هو أحد الزعماء المهمين المطلوبين من قبل السلطات الباكستانية، والذي يتمتع بعلاقات متميزة مع تنظيم "القاعدة". وتثير حادثة ضرب الطائرات لهذه المدرسة الدينية، تساؤلات عديدة، فهل يمكن بالفعل أن تكون هذه المدرسة مكاناً لتدريب الشباب لأعمال عسكرية وشبه عسكرية لها صلة بتنظيم "القاعدة" كما يدعي هؤلاء المدافعون عن مثل ذلك القرار؟ وهل يمكن لدولة أن تضرب مدرسة دينية، أو غير دينية بالطائرات داخل حدودها؟ وهل كان بالإمكان تفادي مثل هذه العملية العسكرية بمحاصرة المدرسة على سبيل المثال بقوات شرطة أو قوات عسكرية؟ وهل إن العملية قامت بها الحكومة الباكستانية، أم أن قوات جوية تابعة للولايات المتحدة، أو تابعة لحلف "الناتو" قامت بالمشاركة في مثل هذه العملية؟ كل هذه أسئلة تظل حتى الآن مُعلقة، وهي بحاجة إلى إجابات شافية. ولو نفذت مثل هذه العملية ضد أي هدف مدرسي أو ديني في أي مكان في العالم، فما هو رد المجتمع الدولي، الذي بات يقبل اليوم بأي عمل عسكري مهما بلغت شناعته ضد أهداف مسلمة؟ الحقيقة أن مسألة "الحرب ضد الإرهاب"، التي تشن مثل هذه الهجمات في إطارها، تثير مشاكل أخلاقية وفلسفية وسياسية وقانونية عميقة. فهل يحق لدولة أن تهاجم أهدافاً داخل حدودها بأي وسيلة عسكرية متاحة، أم أن هناك وسائل متعددة ومتدرجة يمكن اللجوء إليها في سلّم طويل من الخيارات. وإذا كانت القوات الأميركية، أو قوات حلف "الناتو" قد قامت بمثل هذه العملية (كما قامت بها من قبل في نفس هذه المنطقة في يناير الماضي)، أو العملية الجوية المماثلة التي نفذت ضد أهداف في اليمن قبل ثلاث سنوات، فكيف يمكن تبريرها أخلاقياً وقانونياً وسياسياً؟ لعل في مقدمة المسائل التي تثيرها مثل هذه العمليات العسكرية مسألة السيادة على أراضي الدول، أو سيادة الدولة على مواطنيها بشكل كامل ودائم. وهل هذه السيادة شاملة وتامة، أم أنها سيادة محدودة؟ ولفهم هذه المسألة يجدر بنا التعرض لمصطلح السيادة وتطوره التاريخي. فقد ظهر هذا المصطلح في اللغة الفرنسية في القرن الرابع عشر باقترانه بمفهوم الملِك صاحب السيادة الكاملة وغير المنقوصة على أراضيه. وتطور هذا المفهوم عند "جان بودان" في القرن السادس عشر الذي ربط هذا المصطلح بنشوء الدولة الجمهورية، وقرَنه بالقانون الأزلي أو القانون الطبيعي، وتطور المصطلح في الثورة الفرنسية، وعند "جان جاك روسو" تحديداً، الذي ربط مصطلح السيادة بمفهوم الإرادة العامة، وسيادة المواطنين على دولتهم. وقد تراجع هذا المفهوم بشكل حاد منذ منتصف القرن العشرين وقد كان هذا التراجع مرتبطاً غالباً بالمآسي التي حدثت خلال الحرب العالمية الثانية من قتل جماعي للبشر، وإبادة جماعية من قبل قادتهم كما فعل النازيون بمواطنيهم، أو بمواطني الدول المجاورة. لذلك تعالت الأصوات منذ ذلك الحين في مسعى المطالبة بوضع حدّ لقدرة الدول وقادتها على القتل، أو حتى التنكيل بمواطنيها بشكل غير أخلاقي وغير قانوني، غير مقبول. وأن مثل هذه السيادة اللامحدودة، يجب أن تنتهي ليحل محلها نوع جديد من السيادة المحدودة للدولة على مواطنيها. وتطورت هذه المطالبات، وأخذت بعداً سياسياً عملياً في التسعينيات من القرن العشرين، حين ضربت الولايات المتحدة العراق عام 1999. وكذلك قامت الولايات المتحدة بشن حرب جوية، بالتعاون مع قوات حلف "الناتو"، ضد أهداف صربية في أعقاب مقتل المئات في البوسنة وفي كوسوفو. وبررت هذه العمليات العسكرية التي أنهت مفهوم السيادة المتعارف عليه حتى ذلك الحين، بأن عمليات التطهير العرقي والقتل الجماعي الذي كانت تمارسها قوات الجيش الصربي ضد مواطنيها في البوسنة، وكذلك بعد عدة سنوات في كوسوفو، كانت أعمالاً خارقة ومنافية بشكل كبير لمسؤولية الدولة الأخلاقية تجاه شعبها. وأن القانون الدولي الذي يرتكز على مفهوم السيادة الوطنية للدولة في ممارستها للسلطة على أراضيها، لا يمكن قبوله كمبرر لعمليات قتل جماعي وخرق فاضح لحقوق الإنسان، بحق مواطني دولة ما، أية دولة. وبالتالي فإن سيادة الدولة يجب أن تكون محدودة خاصة حين تتعلق المسألة بحقوق الإنسان وبالقانون الدولي الإنساني. وقد أيدّت هذا الطرح مجموعة من السياسيين والقادة السابقين اختارها الأمين العام للأمم المتحدة وتداولت هذا الموضوع طيلة عامين كاملين ورفعت تقريرها إليه في حوالى عام 2000. وبمعنى آخر فإن القانون الدولي سواء من ناحية الممارسة أو التنظير قد أصبح يعطي أولوية أكبر للقانون الدولي الإنساني، ولحقوق الإنسان قبل إعطائه مثل هذه الأولوية لمفهوم سيادة الدولة غير المنقوصة لممارسة كامل سلطاتها وصلاحياتها على أراضيها. وكانت هناك كذلك ومنذ السبعينيات أطروحات ترى أن الممارسات الفعلية للشركات الكبرى، أو ما تسمى بمتعددة الجنسيات قد أصبحت أكبر بكثير وأعظم من قدرات بعض الدول على فرض قوانينها داخل حدودها. وأن استثمارات هذه الشركات قد أصبحت من الضخامة بحيث تضاهي قدرات الدول، حتى المتقدمة منها، على ضمان الأمن الوظيفي وفرص العمل لمواطنيها. وبهذا فإن مفهوم السيادة التاريخي والذي ترتكز عليه الدولة القومية منذ نشوئها عام 1648، حتى اليوم، هو مفهوم آخذ في التآكل سواءً بفعل العوامل الإنسانية، مثل إهدار حقوق الإنسان، أو بفعل العوامل الاقتصادية مثل الامتيازات والأنشطة التي تقوم بها الشركات المتعددة الجنسية. من ناحية ثانية، فإن قيام الدول الكبرى بعمليات عسكرية في أراضٍ حليفة لها، كما هو الحال في مدرسة "دامادولا" أمر له عواقب وخيمة. فهو من ناحية انتهاك حقيقي لسيادة دولة مستقلة، حتى ولو لم تكن تلك الدولة قادرة فعلاً على بسط كامل سلطاتها على أراضٍ قبلية حدودية. وهو بكل المعايير، اختراق قانوني لحق السيادة. كما أنه من ناحية سياسية يتعارض مع توجهات الحكومية الباكستانية لتثبيت نوع من السلام في علاقاتها مع مواطنيها في تلك البقعة النائية. فهي قد وقعت مع زعماء تلك القبائل في تلك المناطق في شهر سبتمبر الماضي اتفاقاً لوقف إطلاق النار، وكانت على وشك توقيع اتفاق آخر للسلام مع هؤلاء الزعماء في نفس اليوم الذي تعرضت فيه هذه المدرسة للقصف. لهذا فإن سياسات الولايات المتحدة وحلف "الناتو" قد ساعدت في الحالة الحاضرة على نقض شامل وكامل لسياسات الحكومة الباكستانية الساعية إلى الوصول إلى سلام مؤقت في تلك المنطقة. وهكذا فإن هذه الأحداث الدامية التي بدأت قبل عدّة أعوام، ترينا أن المسرحية التراجيدية لم تنتهِ أحداثها بعد.