الإعلام الصهيوني والأميركى المراوغ يلجأ إلى حيلة بسيطة وهي ما يسمى الحقائق الكاذبة (true lies) وهي أنصاف الحقائق، وأنصاف الحقائق هذه حقائق لاشك فيها، بل وحقائق صلبة، لكنها حقائق جزئية نزعت من سياقها حتى تصبح خارج أي إطار تاريخي زماني ومكاني، ومن ثم يسهل التلاعب بها وتوظيفها لإخفاء الحقيقة الكلية، بحيث يرى العالم المقاومة الفلسطينية واللبنانية وكأنهما تعبير عن حقد وشر كامنين لا تفسيراً واضحاً لهما، وكأن أعضاء المقاومة، سواء في فلسطين أم لبنان أم العراق أم أفغانستان، عادة ما يبدأون الحرب بسبب كره العرب والمسلمين العميق لليهود ولأسلوب الحياة في الولايات المتحدة والديمقراطية الغربية! وحتى نتجاوز هذه الحقائق ولكي يكون بوسعنا أن نصل إلى الصورة الكلية لابد وأن نستدعي بعض الحقائق التي تم التغافل عنها، والتي أدت إلى اندلاع الحرب السادسة الأخيرة. تم إعلان إسرائيل عام 1948 فاحتلت الأرض الفلسطينية وطردت سكانها، ومنذ ذلك الحين وهي ترفض عودة الفلسطينيين إلى بلادهم رغم أن حق العودة حق تكفله المواثيق الدولية، ورغم أن الأمم المتحدة تؤكد في كل دوراتها ضرورة عودة الفلسطينيين إلى ديارهم واسترداد أملاكهم، فهو حق inalienable لا يمكن التنازل عنه، بل ولا يمكن لأية منظمة أو مؤسسة أو حكومة أن تتنازل عنه، فالفرد وحده هو صاحب هذا الحق، وهو وحده من بوسعه أن يتنازل عنه. وفي عام 1967 قامت إسرائيل باحتلال غزة والضفة الغربية وهو احتلال ظل جاثماً على صدور الفلسطينيين حوالى أربعين عاماً. وفي هذه الفترة قامت سلطات الاحتلال بتغيير معالم المنطقة التي احتلتها، وتركيبتها السكانية إذ سمحت بإقامة 148 مستعمرة يقطنها حوالى نصف مليون مستعمر (432.275) يقطن نصفهم تقريباً (236.400) في محافظة القدس. وقد تطلبت هذه العملية الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية طرد آلاف الفلسطينيين من أراضيهم وتجريف مساحات واسعة من الأراضي هذا على الرغم من أن ميثاق جنيف يحرم هذا على سلطات الاحتلال. وحينما قامت الانتفاضة الأولى، انتفاضة الحجارة السلمية، تم ضربها بضراوة بما في ذلك تكسير عظام الشباب الفلسطيني. وقد دخل عدد كبير من الشعب الفلسطيني سجون الاحتلال واستشهد 186 داخلها منذ عام 1967 ولا يزال أكثر من 9400 فلسطيني رهن الاعتقال من بينهم نساء وأطفال. وقد تعرض 95% من الأسرى للتعذيب الوحشي، وهذا أمر مسموح به في إسرائيل الديمقراطية، حيث إن المحكمة العليا أفتت بأن هذا أمر قانوني. ثم تصاعدت المقاومة، ولكن بدلاً من أن تدرك الدولة الصهيونية هويتها كدولة محتلة، وتحاول تنفيذ قرارات الشرعية الدولية المطالبة بانسحاب القوة العسكرية الإسرائيلية المحتلة، أخذت تضرب بيد من حديد على المقاومة المشروعة وسمتها إرهاباً، وكأن الدفاع عن الوطن إرهاب! وكأن مقاومة المحتل إرهاب! مع أن المقاومة حق من منظور القانون الدولي، كما أن القانون الإنساني يجعلها واجباً. وحين تصاعدت المقاومة أدركت المؤسسة العسكرية الصهيونية أنه لا مناص من الالتفاف حولها. فكانت اتفاقية أوسلو، التي ماتت بعد بضعة شهور، رغم كل التنازلات التي قدمتها المؤسسة الفلسطينية الحاكمة. وحين اندلعت الانتفاضة الثانية، انتفاضة الأقصى المباركة، عادت آلة البطش الصهيونية مرة أخرى للضرب بلا هوادة. ولكن المقاومة تصاعدت فما كان من المؤسسة الصهيونية، بناء على توصيه من المؤسسة العسكرية، إلا أن تقرر الانسحاب من غزة من جانب واحد، وإن كانت حاولت أن يكون انسحاباً "مُشرفاً" وليس مخزياً كما كان الحال في جنوب لبنان. ثم قامت بإقامة الجدار العازل، ظناً منها أنها بذلك ستقبع آمنه داخل "جيتو" صهيوني مسلح يضمن لها السلام والبقاء والاستمرار. ولكن الشعب الفلسطيني النبيل استمر في المقاومة والنضال وانتخب حكومة "حماس"، فقررت الدولة الصهيونية إسقاطها لأن الدولة التي تستند إلى تأييد شعبي ستحاول تغيير الأمر الواقع وإفشال مخططات الهيمنة وسلب الأراضي وطرد السكان. ومما ساعد الدولة الصهيونية على التمادي في غيها وبطشها أنها تمتعت بدعم كامل من الولايات المتحدة وأغلب العواصم الأوروبية. بل ويلاحظ أن بعض العواصم العربية أعلنت مقاطعتها أيضاً لحكومة الأغلبية (من المعروف أن حجم صادرات دولة الاحتلال الصهيوني إلى الدول العربية سجل ارتفاعاً خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2005 بنسبة بلغت 26% قياساً بالفترة ذاتها من عام 2004، بحيث تجاوز حجم هذه الصادرات في هذه الفترة 170 مليون دولار). كل هذا يعني في واقع الأمر أنه تم التوصل إلى اتفاق استراتيجي بين الجميع على إسقاط حكومة "حماس" والقضاء على المقاومة. ولكن الضغط والحصار وعمليات التجويع لم تؤدِ إلى شيء، ثم جاءت العملية العسكرية البطولية التي قامت بها المقاومة الفلسطينية، حيث تم قتل ثلاثة جنود إسرائيليين واختطاف جندي رابع لا تزال المقاومة تحتفظ به. فجُن جنون المؤسسة الصهيونية وصارت مثل الحيوان الجريح فقامت قواتها العسكرية بعملية "أمطار الصيف" لاكتساح غزة واعتقلت 8 وزراء فلسطينيين و21 نائباً بالمجلس التشريعي وتوغلت في الضفة والقطاع وأعلنت رفضها لوثيقة الأسرى بعد موافقة "حماس" عليها، والولايات المتحدة تسمي كل هذا دفاعاً عن النفس، أما بعض الدول العربية فقد التزمت الصمت، الذي لا يدل على الحكمة وإنما على الخوف. وقال جدعون ليفي (هآرتس 9/7/2006) إن "إسرائيل تدّعي أن الفلسطينيين هم البادئون بينما هي التي بدأت عدوانها عبر الاحتلال والتنكر لحقوق الفلسطينيين الأساسية والوطنية"، ثم يسأل هذه الأسئلة البلاغية: "ماذا كان سيحدث لو لم يقم الفلسطينيون بإطلاق صواريخ القسام؟ هل كانت إسرائيل سترفع الحصار الاقتصادي عنهم حينئذ؟ وهل كانت ستفتح حدودها أمام العمل الفلسطيني؟ وهل كانت ستطلق سراح السجناء وتلتقي مع القيادة المنتخبة وتجري المفاوضات معها؟ هل كانت ستشجع الاستثمارات في غزة؟". ثم يضيف ليفي "إنه لو جلس سكان غزة بهدوء كما تطلب منهم إسرائيل، لشطبت قضيتهم من جدول الأعمال في إسرائيل وفي العالم بأسره. إسرائيل كانت ستواصل انطواءها الذي يهدف إلى خدمة أهدافها وحدها مع تجاهل احتياجاتهم. لم يكن أحد ليفكر بمصير سكان غزة لولا أنهم تحركوا بصورة عنيفة. هذه حقيقة مريرة جداً، ولكن العشرين عاماً الأولى من الاحتلال مرت علينا بهدوء -ومع ذلك لم نحرك ساكناً حتى نقوم بإنهائه. بل إننا في ظل ذلك الهدوء قمنا ببناء مشروع استيطاني هائل وإجرامي. إن الفلسطينيين يستخدمون السلاح البسيط الموجود بحوزتهم، ونرد عليه بترسانتنا العسكرية الهائلة ثم نواصل الادعاء: هم البادئون. نحن الذين بدأنا. نحن بدأنا بالاحتلال، وعلينا واجب إنهائه بصورة حقيقية ومطلقة. نحن بدأنا العنف أيضاً –ليس هناك عنف أفظع من عنف الاحتلال الذي يفرض نفسه بالقوة على شعب كامل- وقضية من الذي قام بإطلاق النار أولاً هي بالتالي مجرد تملص يهدف إلى تشويه الصورة وطمس معالمها". وهنا دخل "حزب الله". ومرة أخرى، قام الإعلام الغربي والصهيوني بنزع الواقعة من سياقها، وصرخ قائلاً: إن كل شيء كان مستقراً، إلى أن قام أعضاء "حزب الله" بالهجوم على الوطن القومي اليهودي. فأعضاء "حزب الله" لا يريدون أن يتركوا اليهود وشأنهم. وكأنه لا يوجد عشرات الأسباب الأخرى مثل احتلال مزارع شبعا ومثل محاولة غزو لبنان لتنصيب حكومة عميلة ومثل الحزام الأمني الذي احتفظت به إسرائيل في الجنوب واضطرت للانسحاب منه بسبب تصاعد المقاومة ومثل مئات الأسرى اللبنانيين في سجون إسرائيل. والله أعلم