الإعلام أحد العلوم الحديثة الناتجة عن علوم الاتصال. ورث الروايات القديمة التي كانت الطريق لنشر الخبر، جيلاً وراء جيل. كما ورث طرق جمع المعلومات القديمة وتبادل الرسائل واقتفاء الأثر مثل الحمام الزاجل، والأحصنة وسماع وقعْها على الأرض، واقتفاء الأثر مثل الرمال. وتلتها الأجهزة السلكية واللاسلكية ثم الموجات الصوتية ثم الموجات الضوئية والأقمار الاصطناعية وكل وسائل الاتصال الحديثة التي أحدثت ثورة في المعلومات. فالمعلومات قوة. ومن يمتلك معلومات أكثر ويعرف كيفية تحليلها يمتلك قوة أكثر. والحرب هي أساساً حرب معلومات. واستحدثت أجهزة الكمبيوتر لتخزين المعلومات وفهرستها وتحليلها، وسهولة استدعائها لضعف الذاكرة البشرية وسرعة تلف أرشيفات الحفظ. وأنشئت كليات الإعلام وعلوم الاتصال لهذا الغرض. تعلم الطلاب الخبر وتحليله والصحافة وتبويبها، والفرق بين الخبر والتعليق والتحليل والمقال. وعرض الفلاسفة المعاصرون للأمر نظراً لما رأوه من خطورة الإعلام على نقل الحقائق، وأثره على تكوين الرأي العام، وتحديد رؤى العالم. واختيار أنماط السلوك كما فعل هربرت ماركوز في كتابه الشهير "الإنسان ذو البعد الواحد"، تحليل دور الإعلام في المجتمعات الصناعية المتقدمة لتسويق المنتجات في النظم الرأسمالية، وللتوحيد بين الخبر وطريقة إيصاله بحيث يوحي بتوجه مُعين، ويدفع إلى سلوك خاص لشراء البضائع لأنها الأفضل نوعاً والأرخص ثمناً، كبيرة ولذيذة، لا يضارعها مثلها، فرصة العمر قبل أن يحين الأجل. وتقوم صحافة الإثارة في البلاد المتخلِّفة بمثل هذا الدور عن طريق الإثارة والدفع إلى الحد الأقصى في مجتمعات التطرف والتعصب والحدة. ويصل الأمر إلى الكذب ونقل أخبار مُختلقة أو أقوال مُبتسرة خارجة عن السياق بهدف الإثارة وليس بهدف التوعية عن طريق إيصال الخبر الصحيح. وقد فرق القدماء بين الخبر الصحيح والخبر الكاذب. ووضعوا شروطاً لنقل كل منهما. كما تنقل المعلومات الصماء دون تحليل لها حتى يؤدي الخبر دوره في يقظة الوعي القومي والدعوة إلى التفكير والتساؤل. وقد يتم توظيف الخبر دفاعاً عن الأنظمة القائمة وليس نقداً لها كما هو الحال في ما يُسمى بالصحافة القومية التي تمتلكها الدولة، وإساءة تأويل المعلومات. وتتحول الصحافة إلى إعلانات حكومية بدلاً من البيانات الثورية للصحافة السرية أو صحافة المعارضة. ويصل الأمر إلى حد عدم تصديق مثل هذه الصحف، وهبوط توزيعها، وتكرار مادتها مهما تعددت عناوينها. وتصبح مجرد ديكور للدولة الحديثة وأحد متطلباتها. والهدف من صحافة الإثارة ليس نقل الخبر أو تحليله بل بيع الجريدة وزيادة توزيعها وانتشارها بدلاً من ركودها، وتفاقم الديون عليها، ويكون الهدف أيضاً ترقية الصحفي الشاب أو الصحفية المبتدئة لأنها هي التي أذاعت الخبر المثير، وترقية المسؤول عن الصفحة أو القسم أو مدير التحرير إلى رئيس للتحرير لأنه هو الذي قرر نشر الخبر المثير، وخبط خبطة صحفية استرعت الانتباه، وأثارت الرأي العام، وأصبح حديث القاصي والداني. وربما استعملها النظام السياسي لأغراضه الخاصة ضد خصومه السياسيين، وأصبحت من أعمدة النظام الإعلامي. وتصبح الغاية من الإعلام ليس يقظة الوعي القومي بل تصفية خصوم النظام، والكشف عن الفضائح، وفتح الملفات السرية التي يبقيها النظام لديه لحين الوقت الذي يقرر فيه تصفية خصومه أو عملائه الذين أصبحوا عبئاً عليه أو رفضوا الامتثال المُطلق لأوامره، وإذا ما أرادوا ترك السفينة قبل أن تغرق واللحاق ببر الأمان أو ركوب سفينة أخرى مازالت قادرة على عبور اليباب. وقد يكون الهدف من الإثارة إشعال الفتنة، وكب الزيت على النار، وحرق البلاد بتدخل أيدٍ أجنبية تدفع إلى الحدة والتطرف للقضاء على وحدة البلاد، وإثارة حرب أهلية بين الطوائف والأعراق والأيديولوجيات السياسية. وتعتمد صحافة الإثارة على الثقافة الشعبية والمحافظة الدينية السائدة في الرأي العام، واستقرار الأعراف التي تحولت إلى قيم ثابتة من طول قبولها، والرضوخ لقيمها، وطاعة أوامرها. كما تعتمد على الأفكار الشائعة والمعتقدات الموروثة والقوى السياسية المحافظة إذا ما برز رأي جديد أو عبَّر كاتب عن موقف بديل. فتحاصر كل رأي، وتجرِّم كل فكر، وتتملَّق الذوق العام. وتجعل نفسها حارسة القيم، والمدافع عن الإيمان ضد المنحرفين الملحِدين المارقين المرتدين الخارجين على النظام. تتعرض للمسائل الإيمانية والمعتقدات الموروثة. وتدافع عما استقر منها عبر مئات السنين ضد أي اجتهاد جديد أو قراءة معاصرة. وتدخل في أدق المسائل العلمية والعقائدية لتعرضها على الرأي العام في الصحف السيارة مع أن مكانها الطبيعي في الجامعات ومراكز الأبحاث والمعاهد المتخصصة. ودون أدنى حرج تتعرض للمسائل العقائدية، وتتعرض لقضايا الوحي والتاريخ، والنص وحوامله في الزمان والمكان. وتتهم المفكرين والباحثين بأنهم ينكرون الوحي والنبوة والمقدس. وما هو نازل من السماء يجعلونه صاعداً من الأرض. والناس في لحظات ضعفها وهزيمتها وعجزها لا تجد قوة إلا في الدفاع عن المقدسات التي تعطيها الأمل في المستقبل، والتمسك بالثوابت دون المتغيرات. وتترصد صحف الإثارة لهذا المفكِّر أو ذلك الباحث لكلمة منه أو تشبيه عفوي تلقائي. وتلقي عليه الأضواء. تترك المعاني والمقاصد، وتتمسك بالألفاظ والحروف، والله يضرب الأمثال للناس كي يعقلوا. ويقضي الباحث العمر في البحث العلمي والتأليف الجاد الرصين. ولا يسمع عنه أحد شيئاً. ولتشبيه عابر أو عبارة عفوية بقصد التقريب إلى الإفهام تتناقله أجهزة الإعلام، وتطير به وكالات الأنباء، ويصبح اسمه على كل لسان في مشارق الأرض ومغاربها. ويُعرف بما لم يقصده، ويُجهل بما قصده. وتضيع سنوات العمر لصالح لحظة عابرة. ويضيع المقصود لصالح غير المقصود. ومثل القضايا الدينية الإيمانية تثار الفضائح الجنسية للشخصيات العامة، ولرجال الكهنوت، والزواج العرفي، والأطفال الشرعيين وغير الشرعيين. والجنس مثل الدين والسياسة مُحرمات ومقدسات في الثقافة الشعبية. وتُقرن بها أخبار الزواج والطلاق، والخلع والهجْر، والحب والعشق لنجوم المجتمع من رجال السياسة والمال والسلطان، مع أخبار الفنانين والفنانات، المُحجبات وغير المُحجبات، الصادقات والطالبات منهن الشهرة والإعلانات لتسويق الأفلام القادمة. ومعها تـُنشر مذكرات السياسيين الصامتين، وتذاع أسرار المجتمع بعد كشف الغطاء، ويُعلن عن تصريحات القادة المنسيين الذين يقلبون صفحات التاريخ، ويعيدون تركيب الحوادث من جديد بعد أن طواها النسيان. قد يكون الهدف من صحافة الإثارة الانحراف بالرأي العام، وإبعاده عما يهمُّ الناس وما سماه القدماء "عموم البلوى"، قضايا الاحتلال والتحرر، والقهر والحرية، والفقر والعدالة الاجتماعية، والتجزئة والوحدة، والاعتماد على المعونات الخارجية والتنمية المستقلة. قد يكون الهدف هو إبعاد الناس عن التفكير في الدماء التي تسيل كل يوم في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير، وعن كوارث القطارات والعبَّارات، ومياه الشرب المسمومة، وأنفلونزا الطيور، والأمراض المستوطنة، وتعذيب المواطنين في السجون والمعتقلات، وامتهان كرامتهم في أقسام الشرطة. مهمتها تزييف الوعي القومي واغترابه، وإدخاله فيما لا نفع فيه، وترك الصالح العام. فالإثارة غبار يعمي الرؤية. وعلى هذا النحو تضحي صحافة الإثارة بالوطن من أجل المهنة الزائفة. وتضرب بعرض الحائط الصالح العام من أجل الصالح الخاص للصحفي أو لجريدته. تضرب المفكرين بعضهم ببعض وتجعلهم يكيلون السباب والشتائم لبعضهم بعضاً بلا حياء أو خلق. ويصل الأمر بفضل الإثارة إلى تبادل الاتهامات بالتكفير، وإطلاق الأحكام بالتخوين. ويتبارى فقهاء السلطان، ويتسابقون في تكفير الخصوم السياسيين، والحكم عليهم بالقتل لأنهم مرتدُّون. وما أسهل أن يأتي متعصب لتنفيذ الحكم إذا ما تقاعست الدولة بعد فتوى أحد الفقهاء أنه يجوز لأي مسلم توقيع العقاب على مسلم آخر إذا ما صدر ضده حكم بالردة "احتساباً" لوجه الله. صحافة الإثارة هي البديل الأسوأ للعلم والتحليل الموضوعي للأحداث في هدوء ودون انفعال، إيثاراً للاعتدال على التطرف، دون إثارة للفتن والنعرات الطائفية والعرقية، ومنع تدخل الأيادي الأجنبية لإشعال الحريق، وتفتيت الأوطان، وإحداث حروب أهلية بين فرقاء الوطن الواحد. ومن ثم كان على المثقف الوطني والمفكر الواعي الصمود ضد صحافة الإثارة من أجل وأد الفتنة في مهدها "الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها"، وإطفاء النار ووأدها وهي مازالت في المهد، وتفضيل الآجل على العاجل، والتضحية بالنفس من أجل المحافظة على الوطن.