سوريا ولبنان... علاقة على محك النقد! "نعم... المقابر الجماعية جريمة ضد الإنسانية"، ذلك هو عنوان المقال الأخير في حياة جبران تويني، وقد نشر يوم الثامن من ديسمبر 2005، أي قبل أربعة أيام فقط من مقتله. المقال يندرج ضمن 60 مقالاً نشرها تويني خلال السنوات الأخيرة في أسبوعية "النهار" التي كان يديرها، وقد جُمِعت هذه المقالات في كتاب صدر حديثاً تحت عنوان "بالحبر والدم... استقلاليات"، وذلك في إشارة من الناشر إلى اعتقاده بأن مقتل تويني مرتبط بمواقفه وكتاباته السياسية، خاصة ما يتعلق منها بمنافحاته القوية ضد الوجود السوري وبقاياه في لبنان. وإن تطرقت مقالات الكاتب والنائب اللبناني القتيل، إلى قضايا ومواضيع مختلفة؛ كالعلاقة اللبنانية- السورية، ومسألة الحريات العامة في لبنان، ودولة الأمن، والتجربة النيابية اللبنانية، و"انتفاضة الاستقلال"، والتحقيق الدولي في اغتيال رفيق الحريري... فإنها جميعاً تبدأ عند الموقف من دمشق وتصب فيه أيضاً. فخلال مقاله الأخير عن "المقابر الجماعية"، يتناول تويني ثلاث قضايا مرتباً أوراقها كملفات ضد سوريا. يعلق في أولاها على الانزعاج الذي أبدته دمشق من "تدويل القضية اللبنانية"، ومتسائلاً: أليس مؤتمر مدريد تدويلاً لقضية الشرق الأوسط؟ ألا تعتبر القرارات الدولية جزءاً من التدويل أيضاً؟ وهل ترى سوريا بديلاً لمرجعية الأمم المتحدة؟ أما القضية الثانية فهي "مزارع شبعا"، حيث يرى تويني أن حل مشكلتها يتوقف على دمشق التي تماطل في تقديم وثيقة رسمية تثبت لبنانية المزارع، وذلك لكي تبقيها جرحاً نازفاً "تستخدمه في لعبة شد الحبال وسياسة الابتزاز". وفي القضية الثالثة، وتتعلق بالتحقيق الدولي حول اغتيال رفيق الحريري، يعتبر تويني أن سلوك دمشق يدل على أنها "لا تريد التحقيق، بل تخافه لأنها تخاف كشف الحقيقة". وعلى مدى صفحات الكتاب، لا يتردد جبران تويني في التأكيد دائماً على أن "لبنان لبنان وسوريا سوريا"، ففي مقالة نشرها مطلع عام 2001، حين كانت سوريا وأنصارها يهيمنان بقوة على الساحة اللبنانية، دعا تويني إلى "وضع تصور مقبول للعلاقة اللبنانية- السورية، وتنظيم هذه العلاقة على أساس الاحترام المتبادل ووضع حد لكل أنواع انتهاكات الكرامة والسيادة، ونشر أجواء الثقة بين الشعب اللبناني والنظام السوري... فهناك فرق كبير بين الحليف والتابع". وقبل ذلك بعام تقريباً نشر مقالاً عنوانه "شركاء بالكامل"، وفيه رفض أن "تتنازل الدولة اللبنانية عن حقها المقدس، كشريك أساسي وكامل في أي مفاوضات لها علاقة بما يحصل على أراضيها". كتب تويني ذلك الكلام الصريح بعد سلسلة الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، وإثر اتصالات كان "محورها إيران وسوريا وإسرائيل وحزب الله... وكأن لبنان الرسمي غير موجود". في هذه النقطة، يقرر تويني أن لبنان دفع ثمناً غالياً لربط قضيته بقضية الشرق الأوسط، إذ أصبح ساحة حرب للآخرين، "يقاتل عنهم، يموت عنهم... تحتل أرضه بدلاً من أرضهم..."، ثم يصرخ دونما اعتبار للجغرافيا وأقدار الدول: "فليطلق لبنان سراح نفسه!"، أي ليخرج من دائرة التردد إزاء الوجود المسلح لـ"حزب الله"، و"تسهيل أعمال الأمم المتحدة بغية نشر القوات الدولية والجيش اللبناني في المناطق المحررة"، وذلك "حتى لا يتحول التحرير احتلالاً". ورغم ما في ذلك العنوان من إشارة إلى سوريا وإيران معاً، فإن تويني يتوقف "بين كلام خاتمي وكلام الأسد"، فبينما ينطلق الأول من اعترافه بالتعددية اللبنانية، "معتبراً إياها كنزاً أساسياً للبنان يميزه ويخوله لعب دور فعال ومصيري في المنطقة وفي العالم"، فإن الثاني "تجاهل كلياً الدولة والسلطة اللبنانيين، وتكلم بنفسه عن شروط انسحاب القوات السورية من لبنان"! وفي محور السجال الداخلي يهاجم تويني منتقدي "مؤتمر لوس أنجلوس" الذي جرى بحضور مطارنة لبنان في خريف عام 2002، فيقول: "نعم لدولة الأمن شرط أن تكون حدودها هي الحرية، وليس العكس"، كما يتحدث في مطلع عام 2004 عن "دولة اللاقانون واللامؤسسات"، محيلاً أسباب وجودها إلى التأثير السوري المباشر. أما بعد خروج سوريا من لبنان، فكتب جبران تويني بتاريخ 27/4/2005 مقالة احتفائية صاخبة عنوانها "تحقق الحلم... وقام لبنان"، ومما جاء فيها: "اليوم ... لم يعد على أرض لبنان أي وجود عسكري أو مخابراتي سوري. اليوم استعاد لبنان حريته وسيادته واستقلاله. اليوم استعاد لبنان قراره المستقل... اليوم تحقق حلمنا جميعاً، حلم القيامة المنتظرة... فلتقرع الأجراس، ولتعل أصوات المآذن، وليبتهج الشعب، وليحتفل الجميع...". لكنه يعود ليكتب، بعد ثمانية أسابيع، عن "المعركة الحاسمة"، مستخلصاً أن "الشعب لم يدرك إلى اليوم أهمية الإنجازات التي حققها خلال الشهرين الماضيين"، أي انتفاضة الاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية... وفي مقالاته اللاحقة، لم تعد انتفاضة الاستقلال أو "حركة 14 آذار"، بصورتها البراقة والنقية كما كانت في مقالاته السابقة، بل نقرأ له يوم الخامس عشر من سبتمبر 2005 "نداء للوحدة والتضامن الوطني"، منتهياً إلى الاعتراف بأن الأوضاع "دقيقة وخطيرة للغاية". وفي الإطار العام لمقالات "الكتاب" وفكرته الرئيسية، ربما لا يجد تويني تناقضاً بين رفضه الشديد لكل ما له علاقة بسوريا في لبنان، وبين موقفه المتحمس للغزو الأميركي للعراق كوسيلة مثلى لتخليص العراقيين من نظام توليتاري مستبد. وربما من نفس المنطلق، رأيناه في هذا "الكتاب" يمجد كل كلمة في مواقف وتصريحات السفير الأميركي ببيروت فنسنت باتل، لاسيما "تمسكه بسيادة لبنان واستقلاله"! فهل كان جبران تويني سيسمح إذن بتجميع مقالاته في كتاب واحد يضمها، لو ظل حياً يرزق! محمد ولد المنى الكتاب: بالحبر والدم... استقلاليات المؤلف: جبران تويني الناشر: دار النهار تاريخ النشر: 2006