ماذا في ذهن الجنرال مشرّف ومذكراته؟ هذه قراءة الذات للذات، عبر هذه المجموعة من المذكرات التي فرغ الرئيس الباكستاني برويز مشرف من كتابتها ونشرها للتو، تحت عنوان "في خط النار". وكما جاء في قراءة وتعليق "تريسي ماكفي" على الكتاب، فإن أكثر الطرق التي سلكها قادة العالم المتقاعدون شهرة، هي أن يغلق أحدهم باب غرفته الخاصة عليه، ثم يمسك بالقلم ويشرع في كتابة مذكراته. وفي ذلك التعليق إشارة إلى أن الاتجاه العام في تسجيل وكتابة هذا النوع من المذكرات، هو بعد التقاعد والابتعاد عن المواقع والمناصب القيادية. لكن ربما يحدث العكس أحياناً، أي أن يلجأ أحدهم إلى كتابة مذكراته أثناء توليه للمنصب، مثلما فعل برويز مشرف خلال كتابه هذا. وعلى أية حال، فربما تعددت الدوافع والأسباب التي لا يستبعد أن تكون من بينها، رغبة أحدهم في الكتابة عن نفسه قبل أن ينساه الجمهور، أو أن يطرق على حديد السياسة والماكينة الحكومية وهو ساخن قبل أن يبرد، وقبل مغادرة كافة المسؤولين الذين غالباً ما يحرجهم أو يخدشهم هذا النوع من الكتابة، في نواحٍ معينة من أدائهم القيادي الحكومي. على أنه من النادر جداً أن يتوفر للقادة ما يكفي من الوقت أو الحماس لتدوين مذكراتهم الشخصية ونشرها أثناء توليهم للمنصب. غير أن برويز مشرف خرق هذا التقليد ولم يأبَه له كثيراً، فمضى إلى نشر مذكراته هذه قبل عام واحد من حلول موعد الانتخابات العامة المقبلة في باكستان. وربما كان هذا التوقيت لنشر الكتاب، مما حمل الكثيرين على الاعتقاد بأن الذي قصد منه، هو أن يكون بمثابة "مانيفيستو" أو بيان سياسي، أكثر منه مجرد مذكرات وتدوين لمرحلة سياسية مهمة في مسار تطور الحركة السياسية في باكستان. ولعل ما عزز هذا الشعور وأكده، عدم ادخار الجنرال وسعاً وحيلة، في ترصيع سيرته الذاتية وتدبيجها بامتداح كل ما نسب لنفسه من مآثر وإنجازات، ما صغر منها وما كبر. من ذلك مثلاً، الفقرة التي وصف فيها حصوله على ترقية إلى رتبة قائد فرقة عسكرية في الجيش الوطني. فرغم أنه لم يشر إلى الرتبة نفسها، ومدى أهميتها بالنسبة لجيش بلاده والدفاع عنها، ولا إلى مسؤولياته وواجباته الجديدة فيها، فإنه حشد ذلك المقطع بالامتيازات الشخصية التي حققتها له رتبته. ومن الامتيازات التي أوردها مشرف في هذا الباب، الأعلام الصغيرة التي بدأت ترفرف في سيارته "الجيب"، وقد علق على ذلك بقوله: "وكم كان يجلب لي ذلك من شعور بالفخر لا حد له". والوقوف المتأني عند هذا المقطع، يشف عما يشكل مساراً رئيسياً من مسارات الكتابة وتدوين المذكرات الشخصية، سواء اتفقنا معه أم اختلفنا. فذلك جزء لا يتجزأ من العقلية التي حركت المؤلف في قراءته لسيرته الذاتية بعيونه وحواسه هو. كما يكشف مشرف عن سيرة ذاتية موازية لتاريخ باكستان المعاصر في وجه من وجوهها. فقد كان مشرف في الرابعة من عمره، لحظة الولادة العنيفة للدولة الباكستانية نفسها عام 1947. وبفعل انتشار موجة العنف عبر ذلك الجزء من شبه القارة الهندية، نزحت عائلته من دلهي في ليلة التقسيم نفسها، عبوراً إلى كراتشي. ثم أمضى مشرف لاحقاً سنوات عديدة من طفولته وصباه في تركيا. ويبدو أنه في تلك الفترة من حياته، قد تأثر كثيراً في طموحاته وتكوين شخصيته اللاحق، بالأب الروحي المؤسس للدولة الباكستانية، محمد علي جناح، وكذلك بشخصية القائد الروحي المؤسس للدولة التركية "الفتية" كمال أتاتورك. غير أنه حرص على تعريف القراء بأعدائه أكثر من حرصه على التعريف بالأبطال والأصدقاء. وهنا بالذات يعرض مشرف لعدد من الشخصيات والأسماء التي خاض معها أشرس خصوماته ومعاركه السياسية، إلى جانب ما لاقاه من عنت ومصاعب في التعامل مع الجانبين الأميركي والهندي. ومن الطبيعي أن يكرس الجنرال مشرف قسماً أساسياً من هذه المذكرات، لاستعراض ملابسات وأحداث أزمة "كارجيل" أو ما يعرف بالنزاع الهندي- الباكستاني في جبال كشمير، وهو النزاع الذي أسفر عن انهيار الثقة وجسر التعاون القائم بين السلطتين المدنية والعسكرية في البلاد، وصولاً إلى تنفيذ الانقلاب العسكري السلمي الذي صعد بالجنرال إلى سدة الحكم والقيادة عام 1999. وقد دفع ذلك النزاع بالقوتين النوويتين في شبه القارة الهندية إلى شفا مواجهة عسكرية منذرة بكارثة كانت جد وشيكة حينئذ. هذا ولا يزال الجدل دائراً حول ما إذا كان مشرف قد أطلع حكومته على حقيقة مجريات العمليات العسكرية الميدانية، أثناء ذلك النزاع أم لم يفعل. فعلى حد مزاعم رئيس الوزراء نواز شريف -حينها- فقد تم تضليله فيما يتعلق بمسار العمليات على خطوط النار الأمامية والمعارك الفعلية الدائرة، بينما مضى نواز إلى وصف ذلك القائد العسكري بأنه كان منشغلاً بإدارة حربه الخاصة في "كارجيل". وبما أن القائد العسكري المقصود هو الجنرال مشرف نفسه، فهناك من رأى أن الكتاب لم يأتِ بجديد، ولم يلقِ من الضوء ما يكفي، لإزالة العتمة التي خيمت على هذه المرحلة المربكة والغامضة، من مراحل التاريخ الباكستاني المعاصر. عبد الجبار عبد الله الكتاب: في خط النار المؤلف: برويز مشرف الناشر: دار سيمون وتشوسر للطباعة والنشر تاريخ النشر: 2006