روايات من العراق عن مذابح الانتقام والعبث!

عندما يخبرنا أحد عن حادث قتل شخص ما بدم بارد، ينتابنا الرعب... وعندما يخبرنا أحد أن 3000 جثة قد عثر عليها في قبر جماعي... أو أن 290 ألف شخص قد "اختفوا" خلال فترة حكم صدام حسين في العراق، فستُشل عقولنا ونصبح غير قادرين على التفسير. هكذا يفتتح "روري مكارثي" كتابه الذي نعرضه هنا وعنوانه: "لم يخبرنا أحد بأننا قد هزمنا" (صدر الكتاب قبل إعلان نتائج المسح الذي أجرته جامعة جونز هوبكنز والذي يقدر عدد القتلى العراقيين في الفترة بين مارس 2003 ويوليو 2006 بنحو 655 ألف شخص).

يقول مكارثي إن السبب الذي يجعل شهود الفظائع مضطرين لتكرار قصصهم، هو ذلك الميل الطبيعي لدى البشر للنسيان، وأن ذلك هو ما دفعه بصفته مراسلاً لصحيفة "الجارديان" البريطانية في الشرق الأوسط، يتخذ من العراق مقراً لعمله، لأن يرصد العديد من الروايات. ونحن نقرأ في بداية الكتاب تفاصيل مقابلاته مع بعض الناجين من المذبحة التي اقترفتها قوات الأمن العراقية عام 1991، ورواياتهم لما حدث حينئذ، وكيف قامت تلك القوات بقتل المنتفضين بوحشية، كما نقرأ ما كتبه حين ذهب إلى مقبرة جماعية لمشاهد البلدوزرات التي يشغلها جنود أميركيون وهي تنبش مدفناً جماعياً طُمِر فيه 3000 شخص من ضحايا النظام السابق. وقد انتقى المؤلف هذه الصورة ببراعة كي يفتتح بها سلسلة الروايات التي ضمنها كتابه، والتي تدور حول العراقيين الذين يحاولون مواصلة حياتهم في ظل الحرب الأهلية الطاحنة... وخلال الجولات التي يقوم بها المؤلف في أرجاء العراق، وشجاعته الواضحة في البحث والتنقيب واستعداده للذهاب إلى أي مكان من أجل جمع المادة اللازمة لكتابه، بدلاً من الكتابة من على مكتب وثير في المنطقة الخضراء الحصينة في بغداد. خلال تجواله ومقابلاته التي أجراها مع أفراد ينتمون إلى مختلف أطياف المجتمع العراقي، يدرك مكارثي بحسه الصحفي أن العراقيين يعيشون في مجتمع ممزق بين الرغبة في التحرر من أغلال الماضي والانتقام منه في الوقت نفسه.

ويركز الكتاب بشكل قصدي على العراقيين تحديداً، فالجنود الأميركيون والبريطانيون يلوحون كالظلال المتحركة التي تتحرك جيئة وذهاباً خلف الحواجز الأسمنتية الحصينة الواقية من الانفجارات، أو عند نقاط التفتيش، أو في عربات الهمر المدرعة، أو في طائرات الهليوكوبتر التي تحوم في السماء... لم يكن جنود الاحتلال هم محور تركيز مكارثي ولا الساسة والدبلوماسيون الذين يظهرون القلق على ما يحدث في العراق ويتجادلون بشأن ما يحدث فيه من على بعد. والحقيقة أن هذا المنظور الذي يتبعه في تغطية وقائع الحرب، يختلف عن منظور غيره من مراسلي الصحف ووكالات الأنباء، ومذيعي شبكات الأخبار العالمية، حيث يقدم لنا من خلاله نموذجاً للتغطية الصحفية المتميزة ذات الحس المهني الرفيع.

ومكارثي ليس عاطفياً في تغطيته ولكنه متعاطف (وفرق كبير بين الكلمتين). فمن خلال تعامله عن قرب، واتصاله بمدرسين وبيروقراطيين ورجال أعمال ومقاتلين ومواطنين عاديين... ينجح الرجل في تركيب صورة مؤثرة واضحة المعالم لأمة تمر بحالة من الصدمة الرهيبة. وهو هنا يقوم بشيء أشبه ما يكون بتجميد الصورة على جسم في منتصف سكتة قلبية أو دماغية، حيث نرى العضلات وقد انقبضت في اتجاهات مربكة، والأطراف وقد ثبتت على أوضاع حادة.

والشيء المحزن بالنسبة لهذه الصورة التي يريد مكارثي أن ينقلها لنا، هي أن أولئك القادرين على فهم تعقيدات الوضع، هم أكثر الناس تأثراً وابتلاء بالشلل الناتج عنه. فما هو العمل الذي يستطيع هؤلاء القيام به مثلاً في سبيل التخفيف من المظالم، أو في سبيل الفرز بين الدعاوى المتناقضة التي تتبادلها الطوائف، والروايات المتضاربة التي تقدمها كل منها كي تبرئ نفسها وتلقي باللوم على الآخرين. يقدم المؤلف روايات عن مجتمع أغلق عقله، وكور قبضته، وأرهف سكاكينه، وانخرط أفراده في مذبحة دموية عبثية انتقاماً من مظالم ماضية، حقيقية أو متخيلة، أو رداً على اعتداءات حالية لا يدري أحد على وجه التحديد، الأيدي الخفية التي تقف وراءها... مجتمع يحاول العقلاء فيه في البداية الاستعصام بنعمة العقل، والنأي بأنفسهم عن حمامات الدم ولكنهم يجدون أنفسهم في النهاية وقد اضطروا إلى الانغماس في تلك المذبحة الجماعية العبثية التي لا توفر أحداً. لقد عم العنف أرض العراق، وجرت أنهار الدماء، وأصبح الجميع مستهدفين بمن فيهم الصحفيون -بل ربما الصحفيون قبل غيرهم- ولم يعد مكارثي ولا غيره يجد الفرصة كي يواصل تجواله في أرجاء العراق كي ينقل لنا الصورة بكافة تفاصيلها. وهو هنا يحكي لنا تفاصيل الجولات الأخيرة التي قام بها قبل أن يتقهقر إلى ما وراء أسوار المنطقة الخضراء الآمنة في بغداد، ويقول لنا إن آخر المشاهد التي وقعت عليها عيناه هو مشهد مصرع شابين في سيارة بسبب انفجار عبوة ناسفة كانت مزروعة على جانب الطريق. كان هذان الشابان هما نجلا "مثال الآلوسي" الرجل الذي كان مكلفاً بملف تصفية "البعث" واللذين سالت دماؤهما لأن أباهما، كما يقول الكاتب، رفض أن يساهم في إسدال ستار النسيان على جرائم النظام السابق. لم يعد أحد في العراق يفهم لماذا تسيل الدماء؛ هل تسيل دماء شخص ما لأنه شيعي، أم لأنه سُني، أم لأنه كردي، أم لأنه بعثي، أم لأنه مناهض للبعث، أم لأنه تكفيري، أم لأنه علماني...=؟! لا أحد يعرف الجواب، فدماء الجميع تسيل في وطن تحول إلى مسلخ كبير.



سعيد كامل



الكتاب: لم يخبرنا أحدا بأننا قد هزمنا

المؤلف: روري مكارثي

الناشر: تشاتو آند وينداس

تاريخ النشر: 2006