ينعقد في لندن خلال هذه الأيام، مؤتمر سياسي وأكاديمي عن "حرب السويس بعد خمسين عاماً"، وليس هذا هو المؤتمر الدولي الأول هذا العام عن هذه الواقعة التاريخية المهمة، فقد عقدت منذ العام الماضي في كثير من مراكز البحث والتفكير الغربية، ندوات وورش عمل لمناقشة تلك الأزمة واستخلاص نتائجها بعد نصف قرن من الزمن. يتناقض هذا الاهتمام العالمي مع الغياب العربي على هذا المستوى، فلم تُعقد مؤتمرات مهمة أو حتى ندوات مُصغرة ولو في مصر نفسها، البلد الذي كان مركزاً لهذه الأزمة وبطلها الرئيسي. قامت صحف ومجلات متخصصة -مثل مجلة "السياسة الدولية" الصادرة عن مؤسسة "الأهرام"- بدعوة أربعة من المتخصصين لمعالجة النواحي الوطنية والإقليمية والدولية لهذه الأزمة، كما خصصت مقالتها الافتتاحية للمقارنة بين حرب السويس 1956 وحرب لبنان عام 2006. إذا كان غياب الجانب العربي وتجنبه العودة والتأمل في إحدى محطاته التاريخية المهمة، أمراً مؤسفاً ومحزناً، فلماذا هذا الاهتمام الدولي؟ كما نتذكر فإن ما يعرف في الأدبيات العربية بـ"العدوان الثلاثي على مصر"، وفي الأدبيات العالمية بـ"حرب السويس"، بدأ بإعلان الرئيس جمال عبدالناصر يوم 26 يوليو 1956 تأميم "الشركة العالمية لقناة السويس"، والتي كان معظم مساهميها من فرنسا وبريطانيا. اتخذ عبدالناصر هذا القرار الجريء رداً على القرار الأميركي- البريطاني بالتنصل من وعودهما بتمويل مشروع السد العالي، بل والضغط على البنك الدولي كي يرفض الطلب المصري بالحصول على القرض اللازم لتمويل ذلك المشروع الحيوي بالنسبة لمصر، كونه ينظم جريان مياه النيل ويحمي الجنوب المصري من خطر الفيضانات، كما يساعد مصر على توليد طاقة كهربائية جديدة لمواجهة احتياجاتها المتزايدة. لكن رغم أهمية مشروع السد العالي، فإن الحرب لم تحدث مباشرة بسببه، ولا حتى بسبب رفض الطلب المصري، وإنما أساساً بسبب الطريقة المهينة من جانب واشنطن ولندن لإعلان هذا الرفض، وتشكيكهما في قدرة الاقتصاد المصري على الوفاء بتعهداته، بل إن القاهرة لم تعرف بهذا النبأ المهم إلا من وسائل الإعلام الدولية. يقول سامي شرف، وزير الدولة لرئاسة الجمهورية، في مذكرات نشرها: "في التاسع عشر من يوليو 1956، كنا في طريق عودتنا من يوغوسلافيا (حيث انعقد أول مؤتمر قمة ثلاثي لدول عدم الانحياز بين عبدالناصر، والزعيمين تيتو ونهرو)، وخلال رحلة العودة بالطائرة من بلجراد، ولم تكن رسالة أحمد حسين (السفير المصري في واشنطن آنذاك) قد وصلت بعد، طلب الرئيس مني الاستماع لنشرة الأخبار من إذاعة القاهرة، فوجدت أنها أخبار عادية، فطلب الاستماع لمحطة إذاعة BBC في لندن، فإذا بها تعلن قرار الولايات المتحدة الأميركية سحب عرض المساهمة في تمويل مشروع السد العالي، وتضيف أن بريطانيا ستصدر بياناً مماثلاً بعد قليل، وقد صدر البيان البريطاني بالفعل بعد ذلك بساعتين". وكما قال عبدالناصر لهيكل في الرحلة نفسها وتعليقاً على نبأ الرفض وطريقة إعلانه: "إنهم لم يكتفوا بالرفض، وإنما أضافوا إليه الإهانة... وإن هذا حساب مقصود". النقطة الرئيسية إذن، أن قرار تأميم قناة السويس والأزمة التي تلته، هو جزء من سياق صراعي في هذه المنطقة، وكان الصراع وقتها بين "القديم" و"الجديد"؛ "القديم" تمثله الإمبراطوريتان الاستعماريتان التقليديتان بريطانيا وفرنسا، اللتان تحالفتا مع إسرائيل لضرب مصر وإنهاء حكمها بزعامة عبدالناصر الذي كان يمثل "الجديد" أي الثورة ومحاولة القضاء على نظام السيطرة الاستعمارية في المنطقة، والتي كانت تذوق مرارتها القوات الفرنسية في الجزائر آنذاك. لذلك كان من الضروري لهذه الإمبراطوريات الاستعمارية ألا ينجح عبدالناصر في الفوز بجائزة التأميم ويؤسس سابقة خطيرة في المنطقة وفي العالم بأسره، خاصة أن بريطانيا وأميركا كانتا قد نجحتا قبل ذلك بخمسة أعوام -أي في عام 1951- في القضاء على محاولة رئيس الوزراء الإيراني مصدق لتأميم المنشآت البترولية الإيرانية. ورغم العدوان الثلاثي، فإن مصر الناصرية نجحت في إرساء هذا المبدأ المهم: حق الدول الصغيرة في تأميم منشآتها واسترداد ثرواتها الوطنية ومعها كرامتها. ومن هنا أهمية "أزمة السويس" كمحطة تاريخية أساسية، عربياً ودولياً.