"فوضى، موسيقى صاخبة، شرب مُفرط، وسكين في الجيب... هذه هي عناصر المزيج القاتل الذي يفتك بالشبان في نهاية كل أسبوع، ويقطِّع أجساد عدد آخر غيرهم" أيضاً: "عصابات الإجرام المنظم تزرع العنف في شوارع المدن الإسرائيلية، وأذرعها تتغلغل في سلطات النظام الحاكم وتهدد الديمقراطية من الداخل. قتلة، مغتصبون، أزواج عنيفون، مواطنون عاديون يسامون مر العذاب في غياهب السجون والمعتقلات دونما ذنب اقترفوه، بينما الإعلام الباحث عن الحقيقة، اللاسع، يفقد أنيابه ويأخذ مكانه إعلام امتثالي مهادن". الوصفان السابقان عن الشباب الإسرائيلي، أولهما ورد في مقال يارون لندن (يديعوت أحرونوت 2 مايو 2005)، أما ثانيهما فقد ورد في كتاب الخبير القضائي الإسرائيلي "موشيه نجبي" والمعنون "أصبحنا مثل سدوم: في المنزلق من دولة قانون إلى جمهورية موز". لقد أصبح العنف في المجتمع الإسرائيلي قضية أساسية تشغل بال الدولة العبرية، خاصة وأن من نتائجه المباشرة ارتفاع ظاهرة الانتحار بين الشباب الإسرائيلي، حتى بات الموضوعان يحتلان الصدارة في عناوين رئيسية في بعض الصحف الإسرائيلية. لكن الغريب أن هذه الصحف التي تنشر بموضوعية بالغة تقاريرها عن العنف المستشري والآخذ في الازدياد وارتفاع ظاهرة الانتحار، تفسر الظاهرتين ونتائجهما بتفسيرات ساذجة وسطحية. هذا على الرغم من كون البعض منها قد وضع يده على جوانب من مكمن الخطر، فنرى "عوزي بنزيمان" في مقاله "الرؤية الأصولية والقيم العلمانية" في صحيفة "هآرتس" العبرية، بتاريخ 12 يونيو 2005، يحاول تفسير الظاهرتين بقوله: "إن مكمن المشكلة يتجسد في الأزمة الاجتماعية النفسية للمهاجرين الجدد"، الأمر الذي أدى إلى وجود مجتمع يعاني من مشاكل تربوية لم تستطع المؤسسات معالجتها. يضاف إلى ذلك نتائج البحث الذي نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" (يوم 3 يونيو الماضي)، وقد أجراه فريق من جامعة "بار إيلان" بالتعاون مع وزارات الصحة والتعليم والثقافة في "إسرائيل"، حيث استخلص "أن الشباب الإسرائيلي عنيف ويُفْرطُ في تعاطي المشروبات الكحولية ويعاني خوفاً وجودياً". ومن الظواهر التي أبرزها البحث قوة ظاهرة الانتحار، حيث ذكر 13 في المئة من الطلاب في سن الخامسة عشرة أنهم فكروا في الانتحار بجدية، وذكر 9 في المئة أنهم أعدوا خطة انتحار، بينما قال 6 في المئة إنهم حاولوا الانتحار مرة واحدة على الأقل خلال السنة الأخيرة، مما يعبر -وفق ما يراه الخبراء- عن شيوع الإحساس باليأس الكامل وعدم جدوى الحياة لدى أولئك الشباب. من هنا، لم يكن مستغرباً أن تدرس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي السماح للجنود الإسرائيليين بتناول جرعات محدودة من مادة الحشيش و"الماريجوانا" أثناء العمليات الحربية لمساعدتهم على تجاوز الأزمات النفسية الناجمة عن حالات الهلع والفزع التي يتعرضون لها خلال القتال. وهذا الحال أكدته التقارير الإسرائيلية بعد فشل العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان وما لقيه جنود الغزو الصهيوني على أيدي مقاتلي "حزب الله" من جهة، وما أكده بعض جنود الاحتلال لحظة الصمود البطولي لمدينة جنين في عام 2002 من جهة ثانية، عندما صرّح عدد منهم بأن قادتهم سمحوا لهم بتعاطي المخدرات ليسهل عليهم قتل المقاومين الفلسطينيين. وحقاً، لقد اتضح هذا الأمر دون لبس. فها هي القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي تبرر توجه هيئة أركان الجيش نحو السماح باستخدام جرعات محدودة من الحشيش و"الماريجوانا" باعتبار أنه توجه علمي بعد تبين حجم تأثير الأزمات النفسية على أداء الجنود الإسرائيليين أثناء الحرب، على قاعدة صحية تقول إن "التوجه يستند إلى نتائج العديد من الدراسات في إسرائيل وعدد من دول العالم، والتي تشير إلى أن استهلاك كميات صغيرة من هاتين المادتين، يمكن أن يؤدي إلى تقليص أثر الأزمات النفسية الناجمة عن المواجهات في ساحة المعركة"، رغم أنه من المعروف أن تعاطي هاتين المادتين يؤدي إلى الانتحار في النهاية! ففي التقرير ذاته في القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي تقول إحدى ربات البيوت إن ابنتها كانت تتعاطى مادة "الماريجوانا" بحيث تدهورت أوضاعها النفسية إلى درجة أنها أقدمت على الانتحار! لقد ارتفعت نسبة الانتحار في إسرائيل بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، خاصة في صفوف الشباب ورجال الأعمال والجنود. وفي هذا السياق، تؤكد دراسة مسحية أعدها البروفيسور "إيلان أفتير" من جامعة تل أبيب أن 13% من الشباب الإسرائيلي فكروا في الانتحار وأن عدد الذين انتحروا يزداد كل عام، وقد ارتفع بنسبة 4.1% خلال عام واحد فقط. لقد بلغ عدد المنتحرين (216) حالة في عام 2003، في حين بلغ عدد محاولات الانتحار بين جميع الفئات (3487)، ثم عاد العدد فارتفع في عام 2004 ليصل (231). كذلك، ارتفع عدد المحاولات إلى (3654). لكن الرقم في عام 2005 فاق العامين السابقين، حيث أكدت منظمة "زاكا" الرسمية المعنية بتشخيص حالات الوفاة، أن ارتفاعاً مفاجئاً شهده المجتمع الإسرائيلي في عدد حالات الانتحار، فبلغ عدد المنتحرين (145) لغاية شهر يونيو 2004. وفي الختام، وإن نحن ابتعدنا قليلاً عن التفسيرات الإسرائيلية السابقة، لظاهرتي العنف والانتحار، فإن رئيسة نقابة الأطباء النفسيين الإسرائيلية السابقة والمتخصصة في الطب النفسي، الدكتورة "إيستي غاليلي"، تقدم تفسيراً لهذه الظاهرة، وترى أن من أهم عواملها ذلك الذي ينبع من "عدم متابعة الذين حاولوا الانتحار من قبل، وإهمال المصحات النفسية، وإدمان المخدرات، والأزمات الاجتماعية وكذلك الأزمات المادية..."، وكلها عوامل تؤكد أن المجتمع الإسرائيلي بات مجتمعاً مريضاً مأزوماً. ومن الملاحظ رؤية كيف أن الإسرائيليين في الغالب ما زالوا مشغولين بتدريس أطفالهم الصغار أحداثاً جرت قبل قرون عديدة (على مستوى الحدث التراجيدي المعروف بـ"الماساداه" أي "الانتحار الجماعي")، حتى أضحى الإحساس بالمأساة مترسخاً في الضمير الإسرائيلي، مما أدى إلى تفضيل الموت على الاستسلام، بل وتفضيل الانتحار على الهزيمة. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن دولة قامت على العنف وجُبلت عليه، لا يمكن لشبابها (وهم وقود قوتها) إلا أن يكونوا عنيفين، فكيف يمكنك الطلب من إسرائيلي أن يبطش ويحرق ويدمر ويقتل الفلسطينيين، ومن ثم يعود لبيته آمناً مسالماً ليكون وديعاً في بيئته ومجتمعه؟! إنها حالة قائمة لها تداعياتها الراهنة التي تحدث عنها وحذر منها خبراء ومختصون إسرائيليون عديدون، تماماً مثلما أن لها تداعيات لاحقة يخشاها كثير من الإسرائيليين الذين لا يزالون يحترمون عقولهم.