قامت كوريا الشمالية بتجربة نووية، حيث فجّرت ما يعادل 550 طناً من مادة (T.N.T) في نفق تحت جبل شمال شرق البلاد، وكان ذلك تحدياً واضحاً للدول الست الكبرى التي قامت بإجراء مفاوضات مضنية خلال ست سنوات لإثناء بيونج يانج عن مواصلة برنامجها النووي. وبهذا التطور فقد أثارت كوريا الشمالية دولَ العالم، واعتبرت الولايات المتحدة أن تلك التجربة تمثل "عملاً استفزازياً"، وطالبت مجلس الأمن بالتحرك الفوري حيالها. وأعرب الرئيس الروسي عن امتعاضه من تلك الخطوة وهاجمها واعتبر أنها "تسبب أيضاً ضرراً كبيراً لعملية الحظر العالمي لانتشار أسلحة الدمار الشامل". كما ردّت الصين على التجربة بأن بيونج يانج تجاهلت المعارضة الدولية لبرنامج التسلح النووي بشكل سافر، في حين اعتبرت اليابان -على لسان رئيس وزرائها "شينزو آبي"- أن التجربة لا تُغتفر، داعياً الأمم المتحدة إلى اتخاذ موقف حازم تجاه كوريا الشمالية. وطالبت كوريا الجنوبية باجتماع عاجل لمجلس الأمن الدولي لبحث "الاستفزاز" الكوري الشمالي. باكستان رأت في التجربة "زعزعة" للتنمية في المنطقة، بينما رأت الهند أن التجربة انتهاك لتعهدات بيونج يانج الدولية، وأنها تعرّض شبه الجزيرة الكورية والمنطقة للخطر وعدم الاستقرار. أما الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فقد أعلنت أن التجربة تهدد نظام منع الانتشار النووي، وتمثل تحدياً أمنياً خطيراً ليس فقط للشرق الأقصى، وإنما للمجتمع الدولي بكامله، كما جاء على لسان المدير العام للوكالة محمد البرادعي. المسألة الأخطر هنا، كيف ستتعامل الولايات المتحدة مع بيونج يانج؟ إذ لن تفيد قرارات الأمم المتحدة، ولا غضب الصين أو اليابان أو كوريا الجنوبية، أو دعم إيران. لقد أعلنت الولايات المتحدة يوم 11/10/2006 أنها لا تريد شنّ هجوم ضد كوريا الشمالية، ورفضت وزيرة الخارجية الأميركية دعاوى بيونج يانج بأنها تريد إنقاذ نفسها مما حدث للعراق. ذلك أن صدام حسين حالة خاصة جداً، ولا يجوز مقارنته بالزعيم الكوري الشمالي "كيم جونغ إيل". وألمحت "رايس" إلى وسائل الإدانة أو الحصار الدولي الذي لم تعرفه كوريا الشمالية فيما مضى. كوريا الشمالية لم تلتزم الصمت، ويبدو أنها ماضية في لغة الاستفزاز، إذ أنها هددت باتخاذ إجراءات "مادية مضادة" في حال واصلت واشنطن ممارسة ضغوط ضدها. واعتبرت تطبيق عقوبات عليها بمثابة إعلان حرب، وأنها ستتخذ الإجراءات المضادة وسيكون الرد عالياً! العقلاء في العالم يودون أن تبتعد الولايات المتحدة عن الموضوع الكوري الشمالي، وبدء حوار عاقل معها دون شروط مسبقة. حيث ترى ألمانيا أن كوريا الشمالية "تلوِّح" بالسلاح النووي لمنع أية عقوبات أو ضربات من قبل الولايات المتحدة. الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة تحتفظ بنحو 28 ألف جندي أميركي في كوريا الجنوبية إلى جانب 670 ألف جندي كوري جنوبي. كما تنتشر غواصات وسفن حربية أميركية في المحيط الهادي، كما توجد قاذفات (B-52) في قاعدة "غوام" ويمكن أن يصل مدى صواريخها "كروز" إلى عمق كوريا الشمالية. كيف ستتعامل الولايات المتحدة مع هذا التطور الخطير الذي لم يَعُد مسألة تحدٍ بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة، كما هو الحال بين هذه الأخيرة وإيران؟ فالولايات المتحدة لم تحقق نجاحاً في عملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، ولم تحقق الدولة النموذج في العراق، حيث فاق عدد ضحايا تحرير/ غزو العراق عام 2003 نصف المليون ضحية، بل إن هذا الدخول/ التحرير، قد صحّى الخلايا النائمة والأحقاد المدفونة -في عهد صدام- وبان واضحاً للعيان أن الشعوبية موجودة في العراق، وأن الشيعة يريدون الانتقام من نظام أزعجهم، والأكراد يريدون دولة خاصة بهم، بحيث لا يقترب الآخرون من آبار النفط الشمالية، والسُّنّة غاضبون على "مجد" زائل، ومكانة اجتماعية دامت أكثر من 30 عاماً. هذا هو الموقف في العراق اليوم، مهما حاولنا أن نغلِّفهُ بورق الدبلوماسية، أو الأنفة العربية أو المجاملة السياسية، والعراق يعيش اليوم حرباً أهلية لم تستطع الولايات المتحدة إيقافها منذ ثلاث سنوات. ولم تحقق الولايات المتحدة دوراً في لبنان، بل إن الدور ذاته أكد حماية إسرائيل، وتأكيد دورها كظلٍ وذراع للهيمنة الأميركية في المنطقة. ذلك أن الولايات المتحدة لم تتحرك حتى دكّت إسرائيل لبنان من البقاع حتى الجنوب، ولم تفرق بين أفراد "حزب الله" وأفراد دور الحضانة في جميع قرى الجنوب. وتجلى الموقف الأميركي السلبي أيضاً، مع الانتخابات الفلسطينية في يناير الماضي في الأراضي الفلسطينية، حيث وصلت "حماس" إلى السلطة، وهو ما غيَّر العديد من الأوراق فلسطينياً وعربياً. يُضاف إلى ذلك فشل الولايات المتحدة في التعاطي مع ملف إيران النووي، وعدم قدرتها في لمِّ تحالف دولي ضد إيران، التي هي الأخرى لا زالت تتحدى الولايات المتحدة، بإعلانها إعادة التخصيب. إذن، الولايات المتحدة تجد نفسها اليوم، في موقف التراجع، والرأي العام الأميركي لا يرى في الأفق أية بادرة أمل في أن تحقق الإدارة الأميركية نجاحاً على أية جبهة. وهذا يُنذر بتطورات جديدة في الانتخابات الأميركية القادمة، مع يقيننا بأن تبدّل الرؤساء -في أميركا- لا يعني تبدّل المواقف الاستراتيجية. لكن الحقيقة التي نحن بصددها اليوم، هي عدم قدرة الولايات المتحدة على فتح جبهات جديدة، والتضحية بأبنائها من أجل حضور سياسي تخاف منه حكومات الدول الصغيرة. كما أن توجيه ضربات عن بُعد نحو كوريا الشمالية أو إيران، لن يحقق تغيّر النظام، كما حدث في العراق. بل إن الضربات تلك قد تزعزع الأمن في المنطقة، كلجوء كوريا الشمالية إلى مهاجمة كوريا الجنوبية، حيث يسقط آلاف الأبرياء دون ذنب، كما حدث في العراق. إذن، أمام الولايات المتحدة تحدٍ واحد، وهو نبذ التهديد بالقوة، وإقناع دول العالم بالتوجهات الإنسانية، وخصوصاً أن واشنطن "تناست" وعود الديمقراطية وتحرير الشعوب من النُّظم المتسلطة، وشغلت العالم بملاحقة سوريا وإيران وكوريا الشمالية. نقول، تزعزعت مصداقية شعوب العالم، التي انتظرت الكثير من الولايات المتحدة، ولا يمكن للولايات المتحدة الاستمرار في فتح جبهات من التوتر تكون خارج سيطرتها.