كنت قد وصلت إلى مطار شارل ديجول الدولي في باريس في تلك الليلة واستقبلني سائق سيارة أجرة، أرسله لي أحد أصدقائي الفرنسيين. وكان ذلك السائق يحمل لافتة كتب عليها اسمي. ولكن ما أن اقتربت منه حتى لاحظت أنه كان منهمكاً في حديث مستمر مع نفسه. وباقترابي منه أكثر، أدركت أنه كان يضع في إحدى أذنيه سماعة "بلوتوث" بينما واصل مكالمته التي لا تنقطع عبر هاتفه النقال. فأومأت إلى شخصي باعتباري ذلك القادم الذي كان ينتظره، فأجابني بإيماءة من رأسه، ثم عاد ليواصل مكالمته الهاتفية. وما أن وصلت أمتعتي حتى التقطتها من السير، ثم أومأ لي باتجاه المخرج من صالة القادمين ففعلت، دون أن يقطع هو محادثته التي كان في غاية الانهماك فيها. وعند دخولي إلى السيارة سألته عما إذا كان يعلم أين الفندق الذي سأذهب إليه، فأجابني بكلمة واحدة هي "كلا"، فأطلعته على العنوان الذي ألقى نظرة سريعة عليه، ثم عاد مرة أخرى إلى مكالمته. وفي اللحظة التي بدأت فيها السيارة رحلتها، لاحظت أنه كان يدير فيلماً عبر شاشة تلفزيون صغيرة مثبتة في لوحة أجهزة القياس، في ذلك الجزء المسطح الذي عادة ما يثبت فيه جهاز تحديد المواقع الدولي. ومن ناحيتي، فقد كنت أجلس في المقعد الخلفي للسيارة، وأخوض سباقاً مع الزمن على أمل إكمال عمود صحفي كنت منشغلاً بطباعته في جهاز الكمبيوتر المحمول الذي كان بصحبتي. وأثناء كتابتي للعمود، كنت قد أخرجت جهاز "الآي بود"، واستمعت إلى أحد ألبومات موسيقي "ستيف نيكس". وخلال ذلك الوقت كان السائق لا يزال مأخوذاً بمكالمته الهاتفية، وبمشاهدة الفيلم، بينما كان يقود السيارة أيضاً. وبعد وصولي إلى الفندق، تأملت ما حدث خلال تلك الرحلة: فقد كنا معاً في تلك السيارة خلال ساعة كاملة تقريباً، وكنا نحن الاثنين قد فعلنا ستة أشياء مختلفة عن بعضها بعضاً تماماً. فقد كان هو منهمكاً في القيادة والحديث عبر الهاتف ومشاهدة فيلم الفيديو. أما أنا فقد كنت أجلس وأكتب مقالي، إلى جانب الاستماع إلى الموسيقى كما سبقت الإشارة. غير أن الشيء الوحيد المفقود بيننا نحن الاثنين، هو تبادل الحديث فيما بيننا، على الرغم من أنه ربما كان لديه الكثير مما يود أن يقوله لي، لسوء الطالع. وما أن حدثت صديقي وزميلي "آلين فراكون"، المحرر في صحيفة "لوموند" الفرنسية، حتى قال لي: أعتقد أنه قد فات الأوان على ذلك العصر الذي كان يقتطف فيه المراسلون الخارجيون، تعليقات سائقي سيارات الأجرة على السياسة في بلدانهم. فهؤلاء أصبحوا من الانشغال، إلى درجة أنهم لا يستطيعون تبادل مقطع واحد فحسب مع الصحفيين والمراسلين. وندرك جميعاً الآن استحالة البدء بتلك العبارة الكلاسيكية المأثورة: "وكما حدثني سائق التاكسي عن رأيه في الانتخابات الفرنسية المقبلة"... الخ. وللحق فقد كان سائقي هذا شديد الانشغال إلى درجة أنه لا يجد وقتاً لتبادل التحية، ناهيك عن الحديث في السياسة والانتخابات. وقد تأملت هذا لكونه ينبئ عن شيء طالما غالبني الشعور به مؤخراً، ألا وهو أن التكنولوجيا بدأت تفرِّق بيننا، بقدر ما تقرب بيننا في عصرنا الحالي. فمن ناحية تستطيع التكنولوجيا أن تعطي شعوراً باقتراب النائي البعيد في أقاصي الدنيا، غير أنها تستطيع في الوقت ذاته، جعل القريب جد بعيد هناك في الأقاصي. وكلما علمته من مكالمة السائق الماراثونية تلك، أنه كان يتحدث إلى والديه. فيا له من أمر مُبهج. إلا أن الذي حدث في تلك الرحلة أننا لم نتبادل الحديث معاً البتة، على رغم قربنا وتجاورنا مع بعضنا بعضاً، في مسافة لا تزيد على القدمين فحسب! وما أن حكيت هذه القصة لـ"ليندا ستون"، وهي خبيرة تكنولوجيا، كان قد سبق لها أن سكَّت عبارة "عصر مرض الإنترنت"، حتى استخدمت تعبيراً جديداً هو "التركيز الجزئي"، الذي مضت لشرحه بقولها إن الناس أضحوا منفتحين جداً على بعضهم بعضاً، إلا أنهم جد منغلقين على أنفسهم في الوقت ذاته. وبالنتيجة فقد ضاعت منا أزرار إطفاء الأجهزة، بل وأزرار إطفاء ذواتنا نفسها. فالكل منا يميل اليوم إلى تشغيل جهاز "الآي بود" الخاص به ليستمع إلى قوائم موسيقاه المفضلة، مع إغلاق نفسه عن العالم وضجيجه، أو إغلاق العالم كله عنه. وعليه فقد أصبح الواحد منا في كل مكان تقريباً، عدا عن ذلك المكان الذي يتواجد فيه فعلياً وجسدياً. وقبل تعليق "ليندا" هذا بشهر واحد، كنت قد كتبت عموداً صحفياً بعنوان "سائقة سيارة تدهس رجلاً كان منهمكاً بالاستماع إلى جهاز الآي يبود، بينما كانت هي مستغرقة في الحديث عبر هاتفها النقال"، تعبيراً عن حادث مروري كاد يقع أمامي بالفعل في مدينة سان فرانسيسكو، بين أحد الراكضين المنشغلين بالاستماع إلى الموسيقى، بينما كانت السائقة منشغلة من ناحيتها بالحديث عبر هاتفها النقال. وفي الأسابيع القليلة الماضية، كنت قد حاولت العثور على صديقي "يارون إزراحي" في إسرائيل، عبر هاتفه النقال الذي لم يكن يرد عليَّ. وحين "ألقيت القبض عليه" أخيراً في منزله، وسألته عما دهاه، فأجابني بأن هاتفه قد سُرق وأنه ارتاح من إزعاجه له، فما كان مني إلا أن هنأت السارق أحرَّ تهنئة على حسن ما فعل. توماس فريدمان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"