أخيراً مضت كوريا الشمالية قدماً في مشروعها النووي بعد إجرائها لتجربتها الأخيرة، ضاربة عرض الحائط التحذيرات الدولية سواء تلك الصادرة من الولايات المتحدة، أو من حلفائها التقليديين مثل الصين. وما أن رُصد الإشعاع الناتج عن التجربة وتأكد حصولها حتى خيمت أجواء من الخوف والقلق على شبه الجزيرة الكورية وأحس الناس أن الخطر بات قريباً منهم وربما أصبح جاثماً على عتبات بيوتهم. وبالطبع نسجل، نحن في الجنوب، رفضنا التام حيازة كوريا الشمالية لأي سلاح نووي قد يؤدي إلى تعظيم تلك المخاوف والدخول في سباق محموم للتسلح يحول شرق آسيا إلى منطقة مدججة بالأسلحة النووية. ولابد من التذكير هنا بأن الخطوة التي أقدمت عليها بيونج يانج وأثارت كل هذا القدر من الانتقادات والتشنج بين كوريا الشمالية والمجتمع الدولي تسير في اتجاه مناقض للإعلان المشترك الذي اتفقت عليه الكوريتان في 2002 القاضي بجعل شبه الجزيرة الكورية منطقة خالية من السلاح النووي. وانطلاقاً من حقنا الأصيل في التمتع بحياة آمنة والعيش في سلام مع جيراننا، فإننا نطالب كوريا الشمالية بكل قوة وإصرار بالتخلي عن برنامجها النووي وإنهاء حالة الاحتقان في العلاقات بينها وبين المجتمع الدولي. ولأنه من غير المرجح أن تعمد بيونج يانج إلى التخلي بسهولة عن أسلحتها النووية ووقف برنامجها لتخصيب اليورانيوم وإنتاج السلاح المدمر، فلابد من اجتراح أساليب مبتكرة واتخاذ التدابير الكفيلة بحل الأزمة وتسوية الخلافات بين الأطراف المعنية. وفي هذا الصدد تبرز ثلاثة اقتراحات يتم تداولها في الأوساط السياسية والدبلوماسية تروم إيجاد حل نهائي لقضية البرنامج النووي وطي صفحته مرة واحدة وإلى الأبد. أما الاقتراح الأول فيتمثل في اتخاذ تدابير عسكرية حازمة للرد على كوريا الشمالية وتوجيه ضربة قاصمة تقضي على النظام وتنهي المشكلة من جذورها. غير أن هذا الاقتراح يواجه معارضة قوية من قبل الدول المجاورة لكوريا الشمالية لما ترى فيه من نتائج كارثية قد تلحق بالمنطقة وتحيلها إلى كومة من الرماد، لاسيما إذا ما استخدمت الأسلحة الفتاكة. وفي هذه الحالة لن تكون شبه الجزيرة الكورية وحدها المتضررة من التدخل العسكري، بل سيمتد الضرر أيضاً إلى اليابان التي ستجد نفسها مجبرة على تعبئة جيشها تحسباً لحدوث الأسوأ. وبالنظر إلى التداعيات والتوابع السلبية لخيار الحرب على مجمل منطقة شرق آسيا يرفض الشعب الكوري الجنوبي الحديث عن الخيار العسكري ويصر على إبعاده نهائياً من طاولة التداول. ويتمثل الاقتراح الثاني المطروح على طاولة النقاش في تبني العقوبات الاقتصادية كورقة ضغط على النظام في بيونج يانج، لاسيما في ظل الوضع الاقتصادي المتردي الذي تعيشه البلاد. ولئن كانت العقوبات الاقتصادية ستعمق فعلاً من معاناة الشعب الكوري الشمالي وتحرج النظام، إلا أن تلك العقوبات، من جهة أخرى، قد لا تؤتي الثمار المرجوة منها بالنظر إلى تعود الشعب على الفقر والحرمان الاقتصاديين فضلاً عن احتمال حصول كوريا الشمالية على معونات من حلفائها مثل الصين وغيرها تخفف عنها وطأة العقوبات. ويبقى الأهم من ذلك احتمال لجوء بيونج يانج، كحل أخير، إلى عرض ترسانتها الكبيرة من الصواريخ البالستية إلى من يدفع الثمن. فقد تمكنت كوريا الشمالية في الماضي من بيع ما قيمته مليار دولار من الصورايخ، وإذا ما أضيفت إلى تلك الصواريخ الأسلحة النووية فلاشك أن ذلك الرقم سيتضاعف أكثر، وهو ما سيفرغ العقوبات الاقتصادية من مضمونها ويحكم عليها بالفشل. ويبقى الاقتراح الثالث والأخير الذي أدعمه شخصياً هو خيار التفاوض المباشر بين الولايات المتحدة الأميركية وكوريا الشمالية لحل الأزمة والخروج منها بأقل الخسائر. فقد سبق وأن أعلنت كوريا الشمالية عن استعدادها للتخلي عن برنامجها النووي والامتثال لمطالب المجتمع الدولي إذا ما وافقت الولايات المتحدة على الدخول في مفاوضات مباشرة معها مصحوبة بضمانات أمنية واقتصادية تكفل أمن وسلامة النظام من جهة، وتسمح لبيونج يانج من جهة أخرى بالانخراط في أنشطة اقتصادية مع العالم الخارجي ترفع المعاناة عن شعبها. والأكثر من ذلك أبدت كوريا الشمالية استعدادها أكثر من مرة لإخضاع منشآتها النووية لتفتيش الولايات المتحدة، فهي تقول إنه ما دامت الولايات المتحدة قد تعهدت بعدم الهجوم عليها فلا داعي لحيازة السلاح النووي. وبالطبع يشكك البعض في النوايا الحقيقية لكوريا الشمالية وإمكانية الثقة بها، لكنني أعتقد أنه علينا منحها فرصة أخيرة قبل الحكم على ما تبيته من نوايا. فإن التزمت بيونج يانج بتعهداتها للمجتمع الدولي فإن ذلك سيكون أفضل للجميع، أما إذا تبين خداعها فليس من حل أمام الدول المشاركة في المحادثات السداسية سوى التلويح بالاستخدام الفعلي للخيار العسكري للجم تطلعات كوريا الشمالية ومنع حصولها على السلاح النووي. ولهذا أهيب بالولايات المتحدة النظر جدياً في خيار التفاوض المباشر مع كوريا الشمالية وأن تجعله في سلم أولوياتها. ومن ناحيتنا تلتزم كوريا الجنوبية بالعمل مع الأطراف المعنية كافة للخروج من الأزمة الحالية وتجنب الكوارث التي قد تنجم عن مواجهة عسكرية. فمعلوم أن كوريا الجنوبية ستكون أول من سيتضرر في حال اندلاع مواجهات عنيفة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية. لذا لابد لواشنطن من الإصغاء إلى وجهة نظر حليفتها سيئول حول كيفية التعامل الأمثل مع بيونج يانج وأن تتجنب التسرع في اتخاذ القرارات. وقد سبق لي أن نصحت الرئيس بوش في 2002 عندما كنت رئيساً لكوريا الجنوبية بأنه لا يضير أن يفاوض الإنسان إذا كان ذلك يخدم مصلحة بلاده، ولا يهم إن كان المحاور شريراً. ولتوضيح وجهة نظري ضربت مثلاً بالرئيس الأميركي إيزنهاور الذي انخرط في حوار بناء مع كوريا الشمالية في 1953 إبان الحرب الكورية وتوصل إلى اتفاق هدنة أضفى جواً من السلام على شبه الجزيرة الكورية دام أكثر من 50 سنة. وبالمثل قام الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون بزيارة الصين بعدما كانت الولايات المتحدة تتهمها بارتكابها جرائم حرب خلال الحرب الكورية، كما أجرى حواراً مع الزعيم الصيني "ماوتسي تونج" ولعب دوراً كبيراً في دفع الصين إلى تبني الإصلاحات المهمة التي انخرطت فيها بلاده منذ ذلك الوقت. ولم يحد الرئيس ريجان عن خط الحوار والتفاوض ولم تمنعه انتقاداته اللاذعة للاتحاد السوفييتي ونعته له "بإمبراطورية الشر" من التحاور مع قادته حول القضايا المهمة العالقة بين البلدين والتخفيف من حدة الحرب الباردة. ولا ننسى أيضاً أنه من دون الحوار لم تكن سياسة الضغط والاحتواء التي انتهجتها الولايات المتحدة لتؤتي أكلها، ولعل حالة كوبا البلد الصغير القريب من أميركا أبلغ مثال على فشل تلك السياسات في ظل غياب التفاوض والحوار المتبادل. كيم داي يونج ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رئيس كوريا الجنوبية السابق والحائز على جائزة نوبل للسلام عام 2000 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبون ميديا سيرفس"