للمواضيع السياسية مواسم في الولايات المتحدة، وأحدها هذه الأيام ما اصطلح على تسميته "المد الشيعي في الشرق الأوسط" فتُكتب في تحليله المقالات، وتُعقد الندوات العلمية البحثية، والحوارات التلفزيونية، ويتسلل إلى خطابات المسؤولين هناك، ولقاءاتهم الصحفية، بل حتى تصدر حوله الكتب، رغم أن الأخيرة يحتاج إعدادها إلى أشهر مسبقة. فجأة وجدنا نحن المسلمين السُّنة أن قلوب الساسة الأميركيين باتت "مشغولة" علينا، خائفون على الدول السُّنية "المعتدلة"، فينشطون ويرتحلون من أجل دعمها، ورص الصف معها لحمايتها من "المد الشيعي" بعد الانتصار النسبي لـ"حزب الله" في لبنان، وتولي الشيعة السلطة في العراق، واستمرار إيران في مشروعها النووي، ولكن لسان حالنا يقول، اتركونا رجاءً نرتب أمرنا فيما بيننا، فنحن إخوة نعرف بعضنا بعضاً وإنْ اختلفنا مذهبياً، وبيننا صلات تاريخية، وأواصر قرب وجيرة تجعلنا أعرف بشعابنا، فلا نحتاج إلى أجنبي يهدينا، ولا إلى غريب يفزع لنا أو حتى يتوسط فيما بيننا، ويكفينا ما نلناه وناله إخواننا في العراق من "مساعدتكم" التي لم تكن أصلاً مرحباً فيها في "تحريره" فانتهينا وانتهى إلى ما تعرفون. لا يعني ذلك أنه لا توجد حالة طموحات شيعية في المنطقة، ولكن الأفضل أن تعالج في إطار الأسرة الواحدة، أو لنقل "الأمة" الواحدة، فالسُّنة والشيعة أمة واحدة، وإنْ حاول غلاتنا وغلاتهم ومعهم الأجنبي، أن يثبتوا غير ذلك، ويكفي كنموذج لنجاح الأمة في تجاوز خلافاتها القصة السعودية- الإيرانية، فلقد تردت العلاقة بين البلدين الجارين في العقد الماضي والذي قبله، حتى بدا أنهما إلى صدام لا محالة، ولكن تغلبت الحكمة السعودية والإيرانية، وتحديداً بقيادة العاهل السعودي الملك عبدالله، والرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني، فطورا علاقة مباشرة بينهما، قوامها الصراحة والوضوح، حولت الخلاف إلى تفاهم، ومن ثم إلى تنسيق وتعاون. وأعتقد أن المملكة لا تزال تفضل ألف مرة الحوار الصريح والمباشر مع إيران، حتى وهي مختلفة معها في مسائل أهمها العراق ولبنان، على أن تفتح باباً لأجنبي لا يعرف المنطقة، وتتعارض مصالحه مع مصالحنا. لقد حاول الباحث السعودي نواف عبيد، مدير وحدة بحث مستقلة تُدعى "المشروع السعودي لتقييم الأمن الوطني"، وفي دراسة دقيقة تستند إلى حقائق وأرقام، تفنيد نظرية المد الشيعي في المنطقة، ولقد اهتمت أكثر من صحيفة ببحثه الذي صدر في الرياض الشهر الماضي؛ فنشرت خلاصته أو استندت عليه في معالجتها لموضوع الموسم. الباحث أكد استحالة قيام هلال شيعي يمتد من إيران إلى البحر المتوسط، فإيران وهي أكبر الدول الشيعية تفتقد إلى القوة الاقتصادية والعسكرية لتحقيق حلم كهذا، هذا إذا افترضنا أن هناك من يسعى لذلك في تركيبة القيادة الإيرانية المعقدة، كما أنه لا يوجد في الشرق الأوسط من الشيعة، ما يكفي لتحقيق حلم كهذا، فالشيعة أقلية صغيرة لا تتجاوز 15 في المئة وسط محيط سُني هائل يصل تعداد إلى 1,17 مليار مسلم يمتد من إندونيسيا إلى المغرب. أما في الشرق الأوسط حيث توجد غالبيتهم فهم أقلية أيضاً، لا تزيد على 37,5 في المئة، ولا يتمتعون بأغلبية سكانية سوى في أربع دول فقط هي إيران والعراق والبحرين ولبنان، وهم في الأخيرة ليسوا بغالبية وإنما أكبر طائفة بين عدد من الطوائف التي يتكون منها سكان لبنان المتعدد. وفي المجال الاقتصادي، وهو عامل استراتيجي أهم من عدد السكان، نجد أن المملكة العربية السعودية، والتي لا يزيد عدد سكانها على ثلث سكان إيران إلا بقليل، تتمتع بوضع الدولة صاحبة الاقتصاد الأكبر في المنطقة، فيزيد إجمالي ناتجها القومي بستين في المئة على نظيره الإيراني، وفق أرقام صندوق النقد الدولي، الذي يعطي إيران رقماً أفضل مما يعترف به بنكها المركزي بنحو 20 في المئة، والأمر نفسه في معدل دخل الفرد هناك الذي تجده في ذيل قائمة الدول الشرق أوسطية، وبنسبة أقل من 25 في المئة من المملكة (الدول الأعلى في القائمة هي قطر ثم الإمارات فالكويت والبحرين، ثم إسرائيل وبعدهم المملكة العربية السعودية) أما الأسوأ، فهو نسبة البطالة في إيران، التي تقدر من 30 إلى 40 في المئة. وكل ما سبق أهم للمواطن الإيراني العادي من عدد الصواريخ المتبقية لدى "حزب الله" في لبنان، مما يعني أن ثمة خطأً ما في أولويات بعض المسؤولين الإيرانيين إذا كانوا مشغولين حقاً بوهم الهلال الشيعي عبر الشرق الأوسط. أما على الصعيد العسكري، وهو الذي يهم أصحاب نظريات الفتوحات وبناء الإمبراطوريات، فإن إيران هي الدولة الأكبر في المنطقة في تعداد قواتها المسلحة ولا تسبقها سوى إسرائيل، ولكن العقوبات الأميركية المفروضة عليها أضعفت عتادها العسكري خاصة قواتها الجوية، ما يجعلها في موقع متأخر بالمقارنة بالقوات السعودية والخليجية، وتنافسها مصر في تعداد الجنود والوحدات العسكرية، وبالتالي لا يوجد ما يقلق جيران العراق فيما يخص القوة العسكرية الإيرانية. والحقيقة الأهم والتي سيكون ذكرها محل استهجان الشارع العربي المتأزم، ولكنها حقيقة لابد أن تذكر حين الحديث عن واقع المنطقة استراتيجياً، هي أن إيران لو فكرت في تدخل مباشر في العراق أو ضد إحدى دول المنطقة، فستواجه من دون تردد بقوة أميركية ضاربة، باتت موجودة ومتربعة في المنطقة بفضل مغامرة صدام حسين الحمقاء، فهذا الرجل قلب موازين المقبول والمرفوض في علاقات الأخوة بعد غزوه العبثي للكويت. الأمر الذي لم يذكره الصديق عبيد، هو "المد الدَّعَوي"، أو التحول نحو المذهب الشيعي، الذي طنطن عليه بعض الباحثين، وأعتقد أن هذا خرافة، برغم الأرقام التي يتحدث عنها البعض عن تحول مليون سوري على سبيل المثال للمذهب الشيعي الإثنى عشري بفضل تشجيع حكومي وسماح واسع للنشاط الدعوي والإنساني للإيرانيين في سوريا، فلا زلت مقتنعاً أن سوريا هي بحر سُني في الأصل، وهي بلد العلماء من ابن تيمية وابن القيم إلى علمائنا المعاصرين ولا يمكن أن يتحول أهلها عن مذهبهم. فمن فضائل الصحوة الإسلامية التي يجب أن نعترف بها أن جددت للناس الإيمان والاهتمام بالدين، بعد غربة طارئة. أما مساوئها، فإنها أيضاً، وفي بعض صورها المتشنجة شجعت التعصب المذهبي. وهذا التعصب على ضرره يشكل ساتراً في وجه التحول من مذهب إلى آخر. والغالب أن الأرقام التي تسربت إنما هي توظيف سياسي، وفي أسوأ الأحوال تحول مؤقت تفرضه ظروف اقتصادية، دون أن ينفي ذلك وجود حالات محدودة هنا أو هناك. وبينما تطمئن دراسة السيد عبيد، السُني القلق من مد شيعي، فإن الذي لم يذكره هو من يقنع الشيعي المتحمس في إيران والعراق أو لبنان لمشروع حالم كهذا باستحالة نجاحه، فيشرع في التخطيط والتدبير كما هو حاصل في جنوب العراق؟ في الغالب أنه سيقتنع، ولكن بعد سنوات من المحاولات ونطح الصخر والذي سيكلف الأمة مزيداً من الشقاق والخلاف وفتح الباب للأجنبي الذي يزعم الجميع أنهم لا يريدونه ولكنهم بحماقتهم يهيئون الساحة لمزيد من تدخلاته الفجة. والأفضل لنا جميعاً، سُنة وشيعة، أن نستمر في التواصل، والتصارح وأمامنا قصة النجاح السعودية- الإيرانية التي حولت الخصام إلى تعاون وتآلف، لنبني عليها ونوسعها لتشمل المنطقة كلها.