في منعرج ما من المسار الطويل نحو "الأغلبية الدائمة"، وبالتحديد في عام 1994 كان قد انحرف قطار الثورة "الجمهورية" عن مساره. فعلى امتداد سنوات طويلة، كنا على ثقة مستمرة بمبادئنا، وكنا على قناعة بأن الشعب الأميركي سيكافئ الجهود التي نبذلها من أجله. وقد صدق حدسنا وتوقعاتنا بالفعل. غير أن أصدقائي من "الجمهوريين" في الكونجرس، يقفون اليوم على شفا هاوية انتخابية. فحتى أفضل التكهنات والتوقعات، لا تشير سوى إلى احتمال حصولهم على أغلبية ضئيلة للغاية، غير متجانسة في أجندتها التشريعية. وخلال ما تبقى من أيام تحصى على أصابع اليد الواحدة من الانتخابات المرتقبة، شرعت "نانسي بيلوسي" المنتمية إلى الحزب "الديمقراطي" في التخطيط عملياً لانتقالها إلى منصبها الجديد والمتوقع كناطقة رسمية باسم مجلس النواب. والسؤال الطبيعي الواجب إثارته هنا: أين خرج القطار "الجمهوري" عن مساره؟ وكيف لنا أن انحرفنا من تلك الأفكار الكبيرة العملاقة، والرؤية العميقة التي شهدناها في عام 1994، إلى هذا المنحدر السياسي الرخيص، المتهافت على السلطة والمناصب، والذي تدور قضاياه جميعها، حول الكيد ودق الأسافين والتفرقة بين الصفوف؟ وأعني بهذا، كيف لنا أن انحدرنا كل هذا الانحدار، من إجازتنا لقوانين الرعاية الاجتماعية، إلى تشريع القوانين المهتمة بتحريم أكل لحم الخيول وزواج الشواذ والمثليين؟! والإجابة عن كل هذه الأسئلة جد بسيطة وواضحة. فقد نسي المشرعون "الجمهوريون" مبادئ حزبهم، جراء تكالبهم على السلطة والجاه، فشرعوا يقدمون السياسة على السياسات. وها هم "الديمقراطيون" يحصدون اليوم ثمار ما غرست أيدينا، وما من أحد نلقي عليه باللائمة سوانا. لقد صعد "نيت جنجريتش" إلى المرتبة القيادية الثانية في مجلس النواب عام 1989، على إثر سباق انتخابي ماراثوني امتد لجولة ثالثة مع عدد من المرشحين "الجمهوريين"، من بينهم شخصي، و"بوب والكر"، و"جو بارتون" وغيرهم، ضد عدد آخر من كبار "المحافظين" من شاكلة "بوب مايكل" زعيم الأقلية في المجلس وغيره. وكان في اعتقادنا أن هؤلاء كانوا يعانون من أعراض "ذهنية الأقلية السياسية"، وأنهم كانوا أشد ضعفاً وتراخياً أمام خصومهم "الديمقراطيين". وعلى امتداد جيلين كاملين من سلطة الكونجرس، ظل "الجمهوريون" على تراخيهم هذا، ورضي كبار قادة الحزب بما يلقيه عليهم رؤساء المجلس "الديمقراطيون" من فتات سلطة. وبالطبع فقد كانت الحياة سهلة وميسورة في وضع الأقلية ذاك، طالما أنك لم تهز المركب ولم تمتط المخاطر. وكان من دأب "الجمهوريين" من أعضاء المجلس، أن يرتضوا مكاسب السفر إلى الخارج والامتيازات المصرفية الخاصة، وغيرها مما يسبغه عليهم "الديمقراطيون" من منافع شخصية، طالما أنهم بقوا بعيداً عن دفة القيادة. غير أن "جنجريتش" وأنا، وعدداً محدوداً آخر من "الجمهوريين" المؤمنين برؤية الرئيس رونالد ريجان "المحافظة"، عمدنا إلى استعادة سيطرتنا على المجلسين وانتزاعهما من يد "الديمقراطيين". فكان لهذا الطموح أن تحقق في عام 1994، بحصول "الجمهوريين" على 54 مقعداً من مقاعد مجلس النواب، وثمانية مقاعد في مجلس الشيوخ، ما مكننا من السيطرة على كلا المجلسين. ثم جاءت تشريعات إصلاح نظام الرعاية الصحية في عام 1996، لكي تعزز مسيرة هذه الثورة وتؤكدها. لكن على رغم كل هذه الانتصارات العملاقة التي حققناها، فإننا لم نتعلم درساً أساسياً من دروس السياسة. فما هي إلا أشهر معدودة على نجاحنا في تشريعات الرعاية الاجتماعية، حتى خسرنا معركة التشريعات الفيدرالية الاقتصادية، وهي المعركة التي تغلب علينا فيها الرئيس الأسبق بيل كلينتون بحنكته ومكره السياسيين. وعندها ساد في أوساط "الجمهوريين" شعور بأن الشعب الأميركي بدأ يتطلع حينها إلى حكومة أكبر من تلك التي كانت قائمة في واشنطن. وكان خطأ قراءة تلك اللحظة، نقطة بداية انحرافنا عن المسار الصحيح، بل وبداية الانحراف عن المسار الذي عبَّده رونالد ريجان. على أنه لا يزال على قيادة الحزب "الجمهوري" أن تدرك حقيقة أن الحركة "الجمهورية" الحديثة، إنما تقوم على مزيج من العناصر المالية والاجتماعية، المتحدة مع بعضها بعضاً في قناعتهم بفكرة محدودية الحكم والسلطة. ولذلك فإن الخسائر الانتخابية التي يتوقع البعض أن يُمنى بها الحزب "الجمهوري" في انتخابات نوفمبر المرتقبة هذه، لا تشكل مؤشراً على تراجعهم عن مبادئهم ولا عن تراثهم الذي صاغ رؤية "العقد مع أميركا"، مع العلم بأن تلك الرؤية هي التي شكلت المحرك الدافع لإدارة ريجان ولمسار صعود الحزب "الجمهوري" فيما بعد. غير أن المرجح أن يكون الفوز في انتخابات العام الحالي 2006، من نصيب "الديمقراطيين". وعندها سيكون واجباً على "الجمهوريين" مراجعة مواقفهم والعودة إلى مبادئهم ومسارهم الصحيح الذي انتهجوه لحزبهم. ديك آرمي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ زعيم أغلبية سابق في مجلس النواب، 1995-2003 ورئيس حالي لمؤسسة "فريدوم وولكس" للأبحاث والدراسات. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"