يكفي أن نسترجع بعض الإحصائيات والأرقام المتعلقة بمرض السل أو الدرن (Tuberculosis)، كي ندرك بسهولة مدى فداحة الخطر الذي يتهدد البشرية من هذا المرض اللعين. فمن بين جميع أفراد الجنس البشري، يتواجد الميكروب المسبب للسل داخل جسد واحد من بين كل ثلاثة أشخاص منهم، وهو ما يترجم إلى أكثر من ملياري إنسان مصابين بالسل حالياً. هذا بالإضافة إلى أنه بمرور كل ثانية من كل يوم، ينجح هذا الميكروب في غزو جسد شخص آخر للمرة الأولى، وهو ما يؤدي إلى قرابة التسعة ملايين حالة عدوى جديدة في العام الواحد. وإن كان في غالبية هؤلاء المصابين، لا يظهر المرض بصورته النشطة الكاملة من حيث الأعراض والعلامات، حيث يظل قابعاً ساكناً فيما يعرف بالسل الخامل (Latent TB). ولكن، وفي عشرة في المئة من الحالات، ولأسباب مختلفة، يخرج الميكروب من سكونه وخموله، ليظهر في شكل السل النشط (Active TB). في هذه الحالات سيئة الحظ، إن لم يتم تلقي العلاج المناسب، يلقى أكثر من نصف المرضى حتفهم. ولذا وبحسبة بسيطة، نجد أنه في عام 2004 فقط، كان هناك أكثر من أربعة عشر مليون شخص مصابين بالسل النشط، لقي منهم 1.7 مليون حتفهم بسبب المرض. وهو ما يجعل مرض السل أكثر الأمراض المعدية فتكاً بالبشر على الإطلاق، ولا يفوقه إلا وباء الإيدز فقط من حيث عدد الضحايا. هذه العلاقة الدموية بين ميكروب السل والجنس البشري ليست بالحديثة أو الطارئة. حيث أظهرت الدراسات التي أجريت على بقايا عظام إنسان الكهف، أن المجتمعات البشرية قبل ستة آلاف سنة كانت ترزح تحت وطأة مرض السل، وحتى الفراعنة في مصر القديمة ظهرت آثار السل في العمود الفقري لمومياواتهم. وخلال القرنين التاسع عشر والعشرين، شكّل السل أكبر مشكلة صحية عامة تواجه المجتمعات البشرية في ذلك الوقت، إلى درجة أنه أطلق عليه لقب "الطاعون الأبيض"، بسبب تشابهه مع الطاعون المعروف من حيث حجم الضحايا، واتصاف مرضاه بلون شاحب أبيض. وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون، لا تقتصر حالات السل على فقراء أفريقيا وبقية دول العالم الثالث، حيث شهدت الأعوام القليلة الماضية تزايداً ملحوظاً أيضاً في نسبة الإصابات وفي عدد الوفيات، في الدول الصناعية الغنية التي تتمتع بأفضل نظم الرعاية الصحية على الإطلاق. فعلى سبيل المثال، تشهد بريطانيا 7 آلاف حالة سل جديدة سنوياً، بينما يبلغ معدل العدوى في الولايات المتحدة نسبة 5 لكل 100 ألف. هذا الوضع الدولي، والذي وصل بالمرض إلى درجة الوباء، دفع بمنظمة الصحة العالمية إلى الإعلان في عام 1993، بأن مرض السل أصبح طارئاً صحياً عالمياً (global health emergency)، وهي المرة الأولى في التاريخ التي تلجأ فيها المنظمة إلى مثل هذا الإعلان، في محاولة لإظهار مدى خطورة الوضع. ولكن، كيف يمكن لمثل هذا الميكروب البدائي أن يسبب مثل هذا العدد الهائل من الإصابات والوفيات؟ في زمن تمكن فيه الطب من زراعة القلب والرئتين، وفي وقت يكثر فيه الحديث عن الاختراقات المتتابعة في مجال الجينات وأبحاث الخلايا الجذعية. إجابة هذا السؤال تحمل في طياتها العديد من الجوانب والأسباب، مثل الانتشار المتزايد لفيروس الإيدز، وإهمال برامج مكافحة السل، وظهور أنواع من الميكروب مقاومة للعديد من الأدوية والعقاقير المستخدمة في العلاج. هذا بالإضافة إلى صعوبة تشخيص السل في مراحله الأولى، مما يعيق جهود العلاج قبل استفحال المرض. فرغم اعتماد الأطباء على العديد من المعايير والفحوصات لتشخيص السل، مثل الأشعة الصدرية، واختبار الجلد والفحص المجهري، يظل السل مرضاً صعب التشخيص إلى حد ما، وخصوصاً في المناطق الفقيرة التي تفتقر للتجهيزات التشخيصية والمعملية. وحتى في الدول المتقدمة طبياً، يتم علاج أكثر من ثلث الحالات، دون وجود تأكيد معملي من تشخيص الإصابة بالفعل. وبخصوص هذه المشكلة، نجح مؤخراً فريق من العلماء تابع للمعهد الوطني للأبحاث الطبية (National Institute for Medical Research) ببريطانيا، في تحقيق اختراق مهم باتجاه حلها، من خلال فحص دم بسيط. هذا الفحص يعتمد على ما يعرف بالعلامات الحيوية (biomarkers)، وهي عبارة عن البصمة الكيميائية لوجود العدوى في الجسم. حيث يخلف الميكروب وراءه بعض الجزيئات والمركبات، التي يمكن الكشف عنها بواسطة الأجهزة المعملية، وهو ما يدل بشكل غير مباشر على وجود العدوى. ويأمل العلماء حالياً في تطوير اختبار معملي، يعتمد على هذه الفكرة، بشرط أن يكون زهيد الثمن وسهل التنفيذ، كي يناسب المناطق النائية والفقيرة. وهو ما من شأنه إن تحقق بالفعل، أن يعين الأطباء بشكل هائل على الكشف المبكر عن حالات الإصابة بالسل، وعلى تقنين موارد العلاج من خلال توجيهها فقط للأشخاص الذين يتم تأكيد إصابتهم. هذه الآمال، وما يتعلق بها من أثر بالغ على الصحة العامة العالمية، تحيط بها الكثير من الشكوك في إمكانية تحقيقها. حيث شهدت السنوات الماضية فشل الكثير من المحاولات لتطوير اختبار سهل ورخيص للكشف عن السل، إلى درجة أن هذا المجال أصبح يطلق عليه "مقبرة الباحثين"، بسبب الجهد والوقت اللذين بُذلا فيه من قبل العديد من العلماء والباحثين، دون الوصول إلى نتيجة عملية. ولذا يظل السل، ومنذ عصر إنسان الكهف، من أكثر الأمراض استعصاءً، ليس فقط من حيث العلاج، بل أيضاً من ناحية توفر وسيلة سهلة ورخيصة للتشخيص.