لقد برز اسم "شينزو آبي" خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، ليصبح أصغر رئيس لوزراء اليابان عمراً في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مستفيداً في صعوده هذا من تبنيه للأجندة الوطنية المحافظة. وعليه فقد اتخذ "آبي" موقفاً حازماً ومتشدداً في معارضته لكل من الصين وكوريا الشمالية، بينما نهض مدافعاً عن مواقف اليمين الياباني الأصيلة من قضايا التاريخ الوطني. لكن وفي الوقت الذي تولى فيه "آبي"، البالغ من العمر 52 عاماً ذلك المنصب، أبدى ميلاً ملحوظاً نحو "الوسط"، بمد يده إلى كل من جارتيه الصين وكوريا الشمالية، في استجابة منه للمواجهة الإقليمية التي خاضتها دول المنطقة مع كوريا الشمالية مؤخراً، بسبب اختباراتها النووية. وضمن ذلك أقدم "آبي" على الإدلاء باعترافات مفاجئة ومثيرة للمرارة فيما يتصل بماضي التاريخ الياباني العسكري. غير أن تلك الاعترافات أسهمت في التخفيف من حدة التوترات التي برزت إلى السطح خلال فترة تولي سلفه جونيشيرو كويزومي للمنصب. ومع أن الوقت لا يزال مبكراً جداً للحكم على ما إذا كان الشهر الأول لتولي "آبي" لمنصب رئاسة الوزراء، ينم عن نزعة براجماتية صميمة فيه، أم أنه يسعى لتوطيد نفوذه وسلطته أولاً، قبل الدفع بالأجندة "المحافظة" إلى طاولة أعماله، إلا أن المؤكد أنه استطاع طمأنة الناخبين اليابانيين، وكذلك المسؤولين الأميركيين في واشنطن على ملاءمة اختياره للمنصب. أما على الصعيد الإقليمي، فقد حاز على ثناء جيرانه الصينيين والكوريين الجنوبيين، في الوقت الذي زعزع فيه موقف "اليمين" الياباني وأثار قلقه. وحتى الآن تمكن "آبي" من رد زيارات جيرانه في كل من الصين وكوريا الجنوبية. وكانت كلتاهما قد رفضت عقد قمة مشتركة مع اليابان، تعبيراً عن احتجاجهما على زيارات كويزومي السنوية إلى ضريح "ياسوكوني"، وهو الضريح الذي تنظر إليه بكين وسيئول على أنه صرح مستفز لتخليده لقتلى ومجرمي الحرب اليابانيين، إضافة إلى كونه رمزاً صارخاً للهيمنة العسكرية اليابانية على المنطقة. والشاهد أن تدهور علاقات اليابان مع جارتها الصين، والمسؤولين الحكوميين وصانعي السياسات والقرارات في القارة الآسيوية، يثير قلق الولايات المتحدة الأميركية. وقد توصلت كلتاهما إلى طريق مسدود، على إثر رفض بكين لأي لقاء مع رئيس الوزراء الياباني السابق جونيشيرو كويزومي، ما لم يكف عن زياراته السنوية لضريح "ياسوكوني"، بينما رفض الأخير وقف زياراته تلك. ولما كان "آبي" من أشد مؤيدي هذه الزيارات، فقد لجأ عقب توليه منصب رئاسة الوزراء، إلى تبني سياسات مواربة وأقل تشدداً. وقال من ناحيته إنه لن ينفي أو يؤكد أداءه للصلوات في الضريح المذكور. إلا أنه سمح لمعاونيه بالتصريح بأنه قد سبق له أن زار الضريح فعلياً. تعليقاً على هذا السلوك، وصف "كيم هو-سوب" خبير العلاقات اليابانية- الكورية الجنوبية بجامعة "شانج- آنج" في العاصمة سيئول، موقف "آبي" من الزيارات بأنه يميل إلى الإذعان لضغوط ومطالب جارتيه الصين وكوريا الجنوبية. ومضى هذا الخبير الكوري الجنوبي إلى القول: "على الرغم من أنه بدا صقراً جارحاً من صقور اليمين خلال حملته الانتخابية، فإنه تمكن من معالجة علاقات بلاده بجيرانها الآسيويين، بما فيها القضايا الحساسة مثل ضريح ياسوكوني، بكياسة دبلوماسية تفوق بها على سلفه كويزومي. ولذلك فقد كانت زياراته لكل من الصين وكوريا الجنوبية، على قدر كبير من التوفيق والنجاح". وفي الاتجاه ذاته قال "مايكل جرين"، المسؤول عن دراسات العلاقات الآسيوية بـ"مجلس العلاقات الخارجية" الأميركي حتى شهر ديسمبر الماضي، والذي انتقل حالياً للعمل بجامعة "جورج واشنطن": "إن آبي قد استطاع إعادة ترتيب علاقات بلاده بجيرانها الآسيويين، بعيداً عن ضريح ياسوكوني". وقد كان ذلك النجاح من الذكاء الداخلي المحلي بمكان، لكونه جاء مطمئناً للوسط السياسي في بلاده، على قدرته على التعامل مع الدول الإقليمية المجاورة. كما يوصف النجاح نفسه بالذكاء على الصعيد العالمي، لأنه عزز موقف اليابان في تصديها لكوريا الشمالية. بل يطال الذكاء نفسه تعامله مع الولايات المتحدة الأميركية. فعلى رغم عدم تدخل هذه الأخيرة في المعضلة التاريخية المثارة بسبب الضريح، فإنه كان في وسع طوكيو الشعور بمدى القلق الذي يساور واشنطن، جراء توتر علاقات اليابان مع كل من جارتيها الصين وكوريا الجنوبية. وفيما مضى كان "آبي" قد تمكن من بناء قاعدة محافظة صلبة، عبر الجهود التي بذلها داخل البرلمان، من أجل مراجعة المناهج والمقررات المدرسية، وهي المقررات التي يزعم "اليمين" أنها تعبر عن سلوك "مازوخي مهين" للماضي العسكري الياباني، إلى جانب إثارته للشكوك حول مدى صحة محاكمات طوكيو في أعقاب الحرب، وهي المحاكمات التي يزعم أنها قضت بإدانة قادة الحرب اليابانية. ومنذ عام 2002 صعد نجم "آبي" الوطني عالياً في سماء "اليمين" وتيار المحافظين، بمواقفه المتشددة التي اتخذها إزاء كل من الصين وكوريا الشمالية. غير أنه اعترف في الشهر الماضي بأنه تقع على عاتق قادة الحرب اليابانية –بمن فيهم جده "نوبوسوكي كيشي"- المسؤولية الجسيمة عن الحرب والدمار الذي ألحقته بالقارة الآسيوية. وأعلن في معرض اعترافاته هذه، موافقته على بيانين تاريخيين أعدتهما الحكومات اليابانية المتعاقبة في عقد التسعينيات، يدعوان للاعتذار لبقية الدول الآسيوية المجاورة، عن الماضي الإمبريالي الياباني، إلى جانب اعترافهما بدور الجيش الياباني في التشريع الحربي القاضي بوصف النساء الآسيويات بأنهن "جواري حرب" يتم استغلالهن جنسياً، أو كما جاء في العبارة المحددة في وصفهن "نساء المتعة". وفي كل هذه الاعترافات، ما ينم عن تحول جد مذهل وكبير في مواقف "آبي"، من أقصى "اليمين" إلى "الوسط". نورميتسو أونيشي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مراسل صحيفة "نيويورك تايمز" في طوكيو ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"