أخشى ما أخشاه، هو أن تتحول مشاكل ومآسي التجربة العراقية منذ إسقاط النظام في أبريل 2003، إلى "ممحاة"، تزيل عن أذهاننا وعن ألسنتنا، أي إشارة للإصلاح السياسي بعد الآن! وما يجعل هذا الاحتمال المخيف وارداً، أن بيدِ أعداء الإصلاح والتغيير حججاً تبدو قوية ومقنعة للكثيرين، كما أن معسكرهم يضم أعداداً كبيرة من المسؤولين في بعض الدول العربية. ويضم كذلك نسبة بارزة من المسؤولين الإداريين، إلى جانب جيش لا يُستهان به من الكتاب والإعلاميين و"الأنتلجنسيا" ونشطاء مختلف الأحزاب والتيارات السياسية. ومن المؤسف أننا في الحياة السياسية والإعلامية العربية، نبدأ نقاشنا حول حدث أو قضية، ثم يتحول النقاش والصراخ إلى قضايا أخرى على حساب المسألة الأساسية التي في أحيان كثيرة... نعتبرها محلولة! فمثلاً، الجدل الذي دار في العالم العربي حول أسباب ما جرى للعراق وفيه، وبدا خصباً وواعداً في البداية، سرعان ما تحول إلى جدل عقيم حول دور الداخل والخارج في إحداث التغيير المنشود. ورويداً رويداً، بدأ هذا الجدل يتحول إلى اتهامات متبادلة بين متحمسين للتغيير بأي ثمن، حتى ولو تم بالتعاون مع قوى أجنبية، وبين الرافضين لأي تدخل خارجي، حتى ولو أدى إلى القبول والرضا بالوضع الراهن. وفي ظل هذا المناخ الموبوء بدا كل متحمس للتغيير "عميلاً" أو "قرضاي" آخر، يتحين الفرصة للوثوب إلى مقاعد السلطة على ظهر الدبابات الأميركية، وبدا كل رافض للتدخل الأجنبي "ديناصوراً" سياسياً تجاوزه الزمن، ولم يعد قادراً على استيعاب المفاهيم المعاصرة لإدارة المجتمعات الحديثة في زمن العولمة! هكذا، وببساطة شديدة اختُزلت قضية الإصلاح في مفاضلة عقيمة بين القبول باستبداد الداخل أو باحتلال الخارج". (د. حسن نافعة، مجلة حوار العرب، ديسمبر 2004، ص 29). العالم العربي بما يعاني من مشكلات وأوجاع، وما تشير إليه تقارير التنمية من تخلف وثغرات، وسط تحديات دولية سياسية واقتصادية خطيرة، بحاجة ماسة إلى من يبت في أمر علاجه، بينما نحن نتعارك حول إدخاله في مستشفى حكومي أو مستشفى خاص. وهل نعالجه داخل بلادنا أم نسفره للخارج؟ وهل نكتفي بطاقم الأطباء والاختصاصيين العرب والمسلمين أم نطلب العون من الأميركان والأوروبيين والصينيين واليابانيين والكوريين والهنود؟! لقد برزت مطالب الإصلاح منذ سنوات طويلة، ولكننا أهملنا العلاج حتى حلت بنا كارثة 11 سبتمبر. وانكشفت أوضاعنا السياسية والإعلامية والتربوية والدينية للقاصي والداني، وصار من لا يريد أن يشتري منا شيئاً يكتفي على الأقل بالتفرج! الكثير من المثقفين والأكاديميين العرب يطالب بالإصلاح الشامل، الكامل، فالديمقراطية مثلاً بطبيعتها، يقول د. حسن نافعة من جامعة القاهرة، "عملية تاريخية" يستدعي نضجها ثلاثة شروط: توازن الفئات والطبقات الاجتماعية والتيارات الفكرية والسياسية الرئيسية، وتوافر حد أدنى من الاستقرار الإقليمي اللازم لإنضاج التوازنات الداخلية المطلوبة في هدوء، وأخيراً توافر بيئة دولية مواتية لازدهار العملية الديمقراطية في الداخل. وما يقوله د. نافعة، هو عين المنطق والعدل، ولا جدال فيه. ولكن هذه الأوضاع العربية تتحمل مرور نصف قرن آخر على ما نحن فيه من "أهوال" كي تنضج الأحوال؟ وإذا استطعنا الصبر والتحمل، ونافسنا نياقنا وجمالنا في مدى تحمل الجوع والعطش وكل المشاق، فهل العالم يصبر علينا؟ باتت الدول العربية، يضيف د. نافعة، "في أمس الحاجة إلى عملية تحديث شاملة، وليس إلى عملية إصلاح لنظم حكم تبدو متحجِّرة ومنغلقة على نفسها". بل ويطالب القائمين على الأوضاع بتقبل التغيير القادم، "إذ يتعين على الحكومات أن تعي حقيقة أن إصرارها على استمرار احتكارها الكامل للثروة والسلطة، بات أمراً مستحيلاً وغير قابل للاستمرار، وأن إصرارها عليه سيقود الجميع حتماً نحو كارثة قد تنتهي بفقدان الأوطان والمجتمعات العربية لاستقلالها". مثل هذا الكلام أو ما يقترب منه، قيل بعد نكسة حزيران 1967 وبعد العدوان على الكويت 1990 وبعد اعتداءات سبتمبر 2001، والتغيير في العراق، عندما احتدم الجدل في مضاربنا بين متحمس للتغيير من الداخل بـ"يده"، ومتسامح مع التغيير إن جاء على يد "عمرو". وكانت النتيجة أن وضعت دول جيران العراق وأعداء "عمرو" كل جهدهم لتدمير التجربة العراقية، فلا تكرر التغيير على أيدينا، ولا حاول عمرو تغيير وضع آخر بعد ذلك! هل لا زال الوقت لصالحنا؟ هل نحن قابلون للعلاج حتى الآن؟ لا أدري، فالسماء ملبَّدة بالغيوم! يقال إن تحقيق الديمقراطية الكاملة "شكَّل واحداً من أهم طموحات حركات التحرر الوطني في مختلف الدول العربية"، ويقال "إن الديمقراطية أصبحت شرطاً لا غنى عنه لتحقيق الاستقلال الوطني". ولكن ما يلمسه الجميع هو أن العرب يتحمسون لتوزيع الثروة ولتحرير فلسطين ولقيام الدولة الإسلامية ولزعيم قوي يستولي على العالم العربي ويبني جيشاً جباراً ولو داس على كل القوانين والدساتير واخترق كل الحدود والمواثيق. ولكنهم ليسوا بنفس الحماس، شعبياً ونخبوياً، لإقامة الديمقراطية! الباحث السوري "ميشيل كيلو" يدلي كذلك بدلوه في القضية، ويقول عبارة تقطر حكمة. يقول: "ليس صحيحاً أن الإصلاح صار حاجة عربية لأنه مطلب أميركي. الصحيح أنه صار مطلباً أميركياً لأنه حاجة عربية". أي أن الأميركان، مثل الأوروبيين وغيرهم، باتوا غير قادرين على تحمل "المفاجآت العربية"! ولابد من تعديل هذا الوضع، ودمج العالم العربي مع الوضع العالمي العام، وهذا لن يتم إلا بإصلاح أحوال العرب. وكما أشرنا منذ قليل، يقر الباحث "كيلو" بأن الزمن لم يعد لصالحنا على الإطلاق! في الماضي، كان الإصلاح المطلوب متفقاً عليه إلى حد ما! ولكن مفهوم الإصلاح تشعَّب، والمراد به تعدَّد اليوم؛ فهناك الإصلاح الشامل وفق الأسس السليمة من ديمقراطية وتنمية وتطوير تعليم وتحديث وتصنيع وغير ذلك. وهناك إصلاح تريده الدولة بحكامها ونخبها السياسية، وهناك، كما يرى البعض، إصلاح تريده الولايات المتحدة، وتريده على الأرجح متطابقاً مع مصالحها ورؤاها وأولوياتها. ومن الواضح كما أسلفنا، أن الإصلاح المثالي الذي نحلم به، يزداد عن واقعنا وإمكانياتنا ابتعاداً يوماً بعد يوم حتى بات من المستحيل الإمساك به. وإذا كان الإصلاح الرسمي أو الحكومي دون ما نطمح إليه بكثير، ودون مستلزمات أي تنمية جادة مؤثرة، وإذا كانت الشكوك متراكمة في السياسة الأميركية ومصالحها وأهدافها والتصاقها بإسرائيل وغير ذلك. وإذا كانت قوى الإصلاح في العالم العربي ضعيفة ومشتتة، وأقوى التيارات السياسية المهيمنة والمتجذرة هي الجماعات الإسلامية التي نعرف عن برامجها ما نعرف، فما المخرج؟ وما الطريق إلى الإصلاح المنشود؟ يطالب بعض المثقفين بدمج الإسلاميين في الحركة الإصلاحية المنشودة كي ينتهي الصراع (الديني- الليبرالي) بعد أن انتهى الصراع (الديني- اليساري). ولكن هل يمتزج التياران بوئام في نهر واحد؟ إنه بعيد الاحتمال حتى الآن. ويُقال إن المشروع الغربي الذي ظاهره الإصلاح يرمي إلى إجبار النخب الحاكمة على تقديم تنازلات في القضايا القومية، ووضع لجام أو قيد أقوى على ما بات يقلق الغرب من تنامٍ في التيارات الإسلامية. وضمن هذا السياق، يقول قائل: "يبدو لي أن الصخب الأميركي المثار عن إصلاح العالم العربي، قصد به أولاً وقبل كل شيء تخويف حكومات عربية وإسلامية ووضعها تحت الوصاية الأميركية لإجبارها على تقديم تنازلات مطلوبة لتسهيل تمرير مشروع بوش في العراق ومشروع شارون في فلسطين". (د. نافعة، ص 33). ولكن الذي يخاف من مد "الإسلام السياسي"، ليس الغرب وحدهم، ولا الحكومات في العالمين العربي والإسلامي فقط، بل وكل المُشْفِقين على مصير الديمقراطية والاستقرار والتسامح والتقدم في بلداننا! نحن نعيش معضلة حقيقية حيث يدمر الاستبداد السياسي حاضرنا، بينما يهدد التشدد الديني والتشنج الأصولي مستقبلنا. "نحن" يا سادة، الذين بحاجة ماسة إلى الإصلاح والتغيير واللحاق بالعصر، مهما كانت مخاوف ومخططات أميركا والغرب. فبدون هذه الإصلاحات العربية لن تنهار أميركا ولن تسقط الحضارة الغربية! نحن الذين سنخرج من التاريخ، ونصبح في خبر كان! حال العرب والمسلمين اليوم كحال شخص يتحتم عليه إجراء عملية جراحية كبرى لإنقاذ نفسه، بينما هو خائف ومتردد لأكثر من سبب، ولا يجد الراحة إلا في تناول المسكِّنات والأعشاب واستقبال مدّعي الشفاء والدجالين "دجال داش البيت... والثاني طالع"!