قدم رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري أخيراً عيديته أو مبادرته للحوار أو للتشاور بين الأطراف السياسية اللبنانية، الذين شاركوا في الحوار الأول. واقترح بري أن تكون موضوعات التشاور هي: تشكيل حكومة وحدة وطنية، والقانون الجديد للانتخابات، والأوضاع المالية والاقتصادية. وقال رئيس مجلس النواب إنّ اللقاء التشاوري في مجلس النواب صار ضرورياً بعد تصاعد الانقسام في البلاد، وأوشك أن يتحول إلى صداماتٍ في الشارع. ومع أنّ الوقت ما يزال مبكّراً من أجل الحكم على مدى تجاوُب سائر أطراف المشهد السياسي؛ لكنّ ردود الفعل الأولية تشير إلى خيبة أملٍ من جانب أطراف تحالف 14 آذار. فالموضوعان الرئيسيان المقترحان من جانب بري للتشاور يتجاوبان مع طروحات "حزب الله" والجنرال عون بعد الحرب، أي لجهة المطالبة بحكومة وحدةٍ وطنيةٍ تخلُفُ الحكومةَ الحالية للرئيس فؤاد السنيورة، ولجهة المطالبة بانتخاباتٍ نيابيةٍ مبكرّة بعد إقرار قانونٍ جديدٍ للانتخابات، رجاء حرمان فريق 14 آذار من أكثريته الحالية بمجلس النواب. ولذلك ففي حين رحّب أنصار "حزب الله" والجنرال عون بالمبادرة، علَّق عليها كلٌّ من الرئيس أمين الجميل، والدكتور سمير جعجع بتحفظ، وقال وليد جنبلاط إنّ فريق 14 آذار سيجتمع للتداول، وقال الرئيس السنيورة من الغردقة بمصر حيث يقضي إجازةً قصيرة إنه يقدّر للرئيس بري مبادرته وجهودَهُ، لكنه يقترح إضافة عدة مواضيع هي: مراجعة الأمور التي تمَّ التوافُقُ عليها في الحوار السابق ولماذا لم تنفَّذْ والبحث في سُبُل تنفيذها، ومراجعة الحرب الأخيرة وآثارها ودروسها، والبحث في أزمة الحكم بلبنان (هذا تعبيرٌ عن وضع رئاسة الجمهورية)، والتأكيد على برنامج النقاط السبع الذي أجمع عليه مجلس الوزراء اللبناني خلال الحرب. على أنّ مبادرة الرئيس بري، والتي انتظرها الكثيرون ممن أزعجهم تزايد التوتُّر بلبنان من اللبنانيين والعرب، لا يصحُّ فهمُها من عناوينها وحسبْ بل قد يكونُ من المفيد دراسةُ ظروفها وسياقاتها خلال الشهرين الماضيين التاليين للحرب. فقد فتح السيد حسن نصرالله في مهرجان "النصر الإلهي" النارَ على الحكومة، وقال إنّ الحزب سيحدّد موقفاً من الاستمرار فيها بعد نهاية شهر رمضان، ودأَب الجنرال عون وأعضاء حزبه، وسائر المتحدثين باسم "حزب الله" على مهاجمة فريق 14 آذار، والرئيس السنيورة، والدعوة لقلب الوضع رأساً على عقب بدءاً بتغيير الحكومة ولو في الشارع. الجنرال عون قال إنه ضدّ الحكومة الحالية لفشلِها في الحرب، ولفسادِها، ولإخلالها بالمصلحة الوطنية. أمّا "حزب الله" وأنصارُه فتجاوزوا ذلك إلى القول إنّ هناك نهجين في لبنان والمنطقة العربية: نهج المقاومة، ونهج الخضوع لأميركا وإسرائيل. وحدَّد الشيخ نعيم قاسم نائب أمين عام "حزب الله" نهج المقاومة أو محورَها بأنه محور إيران وسوريا و"حزب الله" وحكومة "حماس" في فلسطين. وسمَّى محمد رعد النائب في "حزب الله" الرئيس السنيورة "كارزاي لبنان". وخلال تلك الأسابيع كانت تصريحات المسؤولين السوريين -وعلى رأسهم الرئيس بشار الأسد- تتوالى على الوتيرة نفسِها من حيث مسألة النهجين أو المحورين. وكان أطراف فريق 14 آذار يردون بالمطالبة بإخضاع سلاح "حزب الله" للتحاور وللدولة، وضرورة المحاسبة على ما جرى في الحرب، ويؤكدون على دعم حكومة الرئيس السنيورة والوقوف في وجه محاولات إضعافها أو إسقاطها. واتجه بعضُهم لاتهام "حزب الله" أنه بهجومه هذا إنما يريد الإلهاء عن احتفاظه بسلاحه، كما يريد منع الحكومة من السير في مسألة المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ومع تصاعُد التوتر الكلامي، وانقطاع التواصُل بين أطراف المشهد السياسي، صدرت بياناتٌ عن البطريركية المارونية ودار الفتوى السُّنية تدعم حكومة الرئيس السنيورة؛ في حين عادت قنابل مجهولة المصدر والفاعل تنفجر هنا وهناك، منها واحدةٌ في الوسط التجاري (سوليدير)، وأخرى على مقربةٍ من منزل السفير السعودي (ليس بعيداً من مقر الرئيس بري) عشية إعلان بري عن مبادرته للحوار التشاوُري. خلال فترة التجاذُب العنيف، والتي بلغت حوالي الستة أسابيع، بدا بري الشخصية الوحيدة ذات العلاقة الجيدة بكل الأطراف. وهو قام قبل عشرة أيامٍ بزيارةٍ للمملكة العربية السعودية، أُحيطتْ بكل مظاهر الحفاوة والتكريم. وهو أعلن قبل أسبوع عن "عيدية" سيُهديها للبنانيين؛ واللافتُ للانتباه أنه في الوقت الذي كان فيه مسؤولو "حزب الله" يتابعون هجومهم على الرئيس السنيورة، كانت طهران ترحّب بوثيقة مكة بشأن حُرمة الدم بالعراق، كما أنَّ السيد خامنئي، وفي خطبة عيد الفطر، حذَّر من الفتنة، ودعا اللبنانيين للتوافُق، وعدم الخضوع لإيحاءات المتآمرين على وحدة بلادهم وأمنها وسلامِها. إنما وسط ظروف المشهد كلِّه، لماذا اختار الرئيس بري هذه العناوين بالذات، والتي تمثّل أجندة فريقٍ واحد؟ وما أقصِدُهُ أنَّ هناك موضوعين بالتحديد لا يمكنُ تجاوُزُهُما في أي حوارٍ وطنيٍ بلبنان الآن: الحرب التي مرت على البلاد، وستظل آثارُها شاهدةً لسنواتٍ وسنوات. والأمر الآخر: رئاسة الجمهورية، وبالذات إذا كان يُرادُ بحثُ مسألة تغيير الحكومة. والموضوع الثاني، أي موضوع رئيس الجمهورية، هو همُّ فريق 14 آذار واهتمامه؛ إذا كان همُّ الفريقين الآخَر الحكومةَ ورئيسها. فعلى سبيل التوازُن، ولكي يَسْهُلَ التوصُّل لتوافُقٍ من نوعٍ ما، أو تهدئة قصيرة الأمد، يفكّر الجميع بالمبادلة أو إحداث توازُن من خلال تغيير رئيس الجمهورية وتغيير الحكومة أو إعادة تشكيلها موسَّعة؛ وبذلك يُستجابُ جزئياً لرغباتٍ لدى الفرقاء كافة. وما بدت إجابةُ الرئيس بري على هذا الموضوع كافيةً عندما قال في مؤتمره الصحفي إجابةً على سؤال: موضوع رئاسة الجمهورية موجودٌ على طاولة الحوار. وذلك لأنّ ذلك الموضوعَ كان خلافياً، وسيظلُّ كذلك، فكيف يُرجى تركُهُ هكذا معلَّقاً؛ في حين لم تُنَفَّذْ أمورٌ جرى التوافُقُ عليها، والرئيس بري لا يريد الرجوعَ إليها الآن أيضاً! أما الموضوعُ الآخَرُ، أي موضوع الحرب، فمن غير المنطقي، ما دامت حتى دول العالم الكبرى (وليس إسرائيل فقط) تراجع النتائج العسكرية والسياسية لحرب تموز، أن يجري المرورُ على هذا الموضوع الخطير على حاضر البلاد ومستقبلها، دونما ذكرٍ أو تأملٍ أو استخلاصٍ للدروس والعِبَر. عندنا قراراتٌ دوليةٌ بدأ تنفيذُها في الجنوب، وما يزالُ سلاحُ "حزب الله" عالقاً. ولدينا مسألة إعادة الإعمار، وما يزال رئيس الحكومة يجمعُ المساعدات من أجل ذلك؛ في حين يواجهُهُ "حزب الله" بالشتم والإدانة. لدينا العلاقات المتوترةُ مع سوريا، وقد زادتها الحرب تفاقُماً، وما استطاع أحدٌ حتى الآن اقتراح مخرجٍ أو الوصول إليه. كل هذه موضوعاتٌ عالقةٌ وهي سبب الاشتباك السياسي، فيتركها الرئيس بري، ويطرح موضوعين لفريق "حزب الله" والجنرال عون لا فائدة منهما غير تعطيل الدولة والمؤسسات؟! هكذا يبقى احتمالٌ واحد يعلّل عناوين بري اليتيمة: أنّ الفريقَ الآخَر، أي فريق "حزب الله" وعون وأنصار سوريا ما وافق على أكثر من ذلك، وأنّ بري يريد التهدئة بأي شكلٍ، كما قال تقريباً، خوفاً مما هو أعظَم. ولذلك فقد اختار عناوين يوافق عليها "حزب الله"، وتأمَّلَ أن تُزيل اللقاءات التشنُّج؛ وربما يمهّدُ ذلك لتوسيع موضوعات المؤتمر وتعديدها؛ أو في الحدّ الأدنى: رجاء أن يحقّق ذلك تهدئةً مؤقتةً بانتظار تغيُّر الظروف أو تحسُّنها؛ وبخاصةٍ أنّ السعودية تشجّع على ذلك، وأنّ طهران لا ترغبُ في فتنةٍ سُنيةٍ/ شيعية أو في ازدياد الانقسام الداخلي. إنّ الذي أراه أنّ التلاقي مُفيدٌ من كل النواحي حتى لو لم يتفق المتشاورون على شيء. فالمنطقة تشتعل، واللبنانيون قلقون على حاضرهم ومستقبلهم ولا أحد يريد أن يتحول لبنان إلى ساحاتٍ دائمة للصراع. والأفضلُ التجاذُب داخل جلسات الحوار بدلاً من المقابلات التلفزيونية المريرة. أمّا إن جرى غير ذلك؛ فيبقى للرئيس بري أَجْرُ المجتهد المخطئ!