بينما كانت الحرب بين إسرائيل و"حزب الله" اللبناني دائرة، في الصيف الماضي، كتب "آري شافيت" مقالة شديدة الحدّة في "هآرتس". وشافيت، أحد أبرز كتّاب الصحيفة الإسرائيلية الأولى، انتقل، متأثراً بالانتفاضة الثانية، من اليسار إلى اليمين، ومن معسكر السلام إلى معسكر التشدّد، إن لم يكن التزمّت. في مقالته تلك نعى شافيت على إسرائيل نزعة الميوعة التي تجتاحها، بما في ذلك من تراجع القيم العسكرية والكيبوتزية لصالح الجري وراء البورصة والمال والربح السريع. كذلك هجا الميل المتعويّ الذي يجتاح شبيبتها، معتبراً أن مواصفات كتلك لا تخوّل الدولة العبريّة الدفاع عن نفسها. وكان عجز "جيش الدفاع الإسرائيليّ" عن إحداث تقدم ملحوظ في الحرب اللبنانية حجة آري شافيت في ما يذهب إليه. تلك المقالة الغاضبة قُرئت بكثرة يومذاك. إلا أن نهاية الحرب جعلت الإسرائيليّين يعودون إليها ليقرؤوها ثانية، خصوصاً أنهم يجدون في أحوال حكومتهم الراهنة تلخيصاً لمجمل الوضع الذي تعانيه الدولة العبريّة ككل. فلربما كان المشهد السياسيّ الإسرائيليّ اليوم في أسوأ أحواله منذ اغتيال إسحاق رابين. لا بل ثمة من يقول إن مصرع رابين، على ضخامته وضخامة آثاره، لم يترك السلطة السياسيّة في حال من الارتباك وانعدام الوزن كالتي تعيشها اليوم. وتبعاً لهذا التحليل، قد يكون الأدقّ تشبيه المشهد الراهن بما كان عليه إبّان التحقيق في دور الجيش والحكومة الإسرائيليّين في مجازر مخيمي صبرا وشاتيلا الفلسطينيّين عام 1982، أو مع التحقيق في "التقصير" الذي أعقب حرب أكتوبر 1973. على أية حال، هناك ريح صفراء تعصف بالحياة السياسيّة للدولة العبريّة، بحيث إن إدانة رئيس الجمهورية موشي كاتساف بارتكاب اغتصابات جنسية بالجملة لم تتحوّل حدثاً رئيسياً ولا احتلّت مركز الاهتمام الذي كانت لتحظى به في أوضاع أكثر عادية. فالموضوع الأكثر طغياناً، بلا قياس، ليس رئيس الجمهورية بل رئيس الحكومة إيهود أولمرت في محاولته تثبيت حكومته وضمان حفاظها على الغالبيّة البرلمانيّة، وما يستدعيه ذلك من توسيع لائتلافه الحاكم. وهذا الاستغراق في الترتيبات والسياسات الحزبية، بما فيها من مناورات ووعود وتلاعب على تناقضات الأحزاب، إنما يحوّل أنظار أولمرت وأنظار حزبه "كاديما"، عن القضايا الساخنة كالمواضيع الفلسطينيّة والسورية واللبنانية. بيد أن المفارقة الكبرى تكمن هنا تحديداً: فهذه القضايا الأخيرة تكتسب راهناً، لاسيما بعد حرب الصيف الماضي، درجة من الإلحاح لم تكن لها في السابق. لا بل إن الأزمة الحكومية الحالية إنما هي صنيعة الحرب المذكورة والمشكلات المفضية إليها. ومع ذلك يصار إلى "معالجة" الوضع الحكومي كما لو أنه مفصول عما عداه. فعندما يحضر الموضوع الاستراتيجي الأكبر في النقاش فهو ينصبّ، بالكامل تقريباً، حول المسألة النووية الإيرانية. بادئ ذي بدء، يعاني حزب "كاديما" مشكلة مصدرها تحالفاته أكثر منها في الحزب نفسه. ذاك أن حليفه الرئيسي في الائتلاف، أي "حزب العمل"، منقسم بحدّة في ما خص تأييد خطة الموازنة الوطنيّة للعام المقبل. فإذا كان عمير بيريتس قائد الحزب ووزير الدفاع قد وصل إلى موقعه هذا بوصفه الوجه النقابي واليساري لحزبه، فإنه الآن يواجه انتقادات حادة من رفاقه الذين على يسار الحزب. فهؤلاء يتهمونه بأنه يخون السياسات الاجتماعية التي مثّلها ونطق باسمها ذات مرّة، وبالمعنى هذا يعتبرون أن تمثيله الحكومي لحزبه إنما بات نوعاً من... التزوير. لكن هؤلاء إذا ما خرجوا عن قرار الحزب وصوّتوا ضد خطّة الموازنة، كان المعنى انهيار الحكومة. فإن أضفنا هذا العنصر إلى ضعف الثقة بأولمرت، بسبب الطريقة التي خيضت فيها الحرب الأخيرة، كانت النتيجة نهايته السياسيّة على نحو مبرم، لا نهاية حكومته فحسب . كيف يخرج أولمرت من هذه الورطة؟ الخبراء الإسرائيليّون سبق أن قالوا بحلّين لا ثالث لهما: - إما أن يهدد "العمل" ويشعره بخطورة ما قد تؤول إليه انقساماته عليه هو نفسه، بحيث يضطره إلى الاصطفاف جسماً موحداً وراء الحكومة، - وإما أن يوسع ائتلافه ليضمّ أطرافاً كانت في المعارضة. وفي الحالين، لابد من أن تشهد الحياة السياسيّة الإسرائيليّة كثيراً من خلط الأوراق. فمن هم أبطال هذا الخلط وأين يكمن موقع أفيغدور ليبرمان قائد حزب "إسرائيل بيتنا" المتموضع في خانات اليمين العنصري، والذي تم ضمّه إلى الائتلاف مؤخراً؟ صحيح أن إسرائيل عرفت في ماضيها الكثير من حكومات "الوحدة الوطنية" بين أطراف متنافرة إيديولوجياً وسياسيّاً، وأحياناً على صعيد الكيمياء الشخصية أيضاً. وهذه الخلفية كانت لتجيز وتبرر ضم بنيامين نتانياهو وحزبه "ليكود" إلى الائتلاف، لولا أن المذكور يفضل البقاء راهناً في المعارضة التي يعتقد أنها تكسبه ما لا تكسبه إياه المشاركة في السلطة. وهنا يظهر دور ليبرمان بوصفه "البديل عن الضائع". والأخير معروف بسياسات يبزّ فيها نتانياهو تطرّفاً: فهو ورث عن أصوله الروسية نزعة توسعية لا تستطيع أن تهضم فكرة إرجاع أراضٍ تم الاستيلاء عليها وإخضاع سكانها. ثم إنه يؤيّد حكم الإعدام كما يشجّع على تجريد مواطني إسرائيل العرب من الجنسية، ما يجعله رمز الشيطان في نظر المعتدلين، كي لا نقول اليساريين والعرب. ما يعنيه هذا أن تكلفة اصطحاب ليبرمان في الائتلاف الحكومي باهظة على جميع المعنيّين، لاسيما على أولمرت نفسه. وهذا ما يدل إلى حراجة وضع قائد "كاديما" الذي قلّصت الظروف طموحاته إلى مجرد البقاء. وهو للهدف هذا ذهب إلى حد تقديم التنازل لليبرمان في خطته للإصلاحات الانتخابيّة، والتي تقضي، كما بات معروفاً، بإحلال نظام رئاسي محل النظام البرلماني المعمول به حالياً في إسرائيل. فليبرمان من أنصار تخفيف القيود على السلطة التنفيذية التي تكون لها اليد العليا في صناعة القرار واختيار الحكومة والوزراء حسبما ترى ضرورياً. لكن هذا التعديل الحكومي لن ينقذ أولمرت على المدى المتوسط، كي لا نقول القريب. فمنذ أن تخلى عن خطته للانسحاب من أجزاء واسعة من الضفة الغربية، بات رئيس الحكومة الإسرائيليّ لا يملك مطلق خطة. وهو، في مقابلاته الصحافية الأخيرة، رفع العجز إلى مستوى الفضيلة إذ اعتبر أن "رئيس الحكومة ليس بحاجة إلى أن تكون لديه أجندة، فالمطلوب منه فحسب هو أن يدير أمور البلد". وهذا ما يجعل صورة أولمرت مساوية لصورة أي انتهازي عديم المبادئ لا يهمّه إلا البقاء في السلطة. وهو انطباع عززته اتصالاته لضم "حزب ميريتس" أيضاً إلى ائتلافه الفضفاض الموعود. فكيف يستقيم جمع هذا الحزب، وهو أقصى يسار أحزاب الحركة الصهيونية، بحزب "إسرائيل بيتنا" داخل حكومة واحدة؟ والراهن أن نقاد أولمرت من اليمين ينتقدونه لأنه لم يذهب بعيداً في حربيه في لبنان وغزة. أما نقاده من اليسار فيأخذون عليه فشله في الاستجابة للمبادرة العربية وللإشارات السورية التي تفتح، في رأيهم، فرصاً جديدة لحل الموضوع الفلسطينيّ وتثبيت استقرار ما في المنطقة. يضاف إلى ذلك كله أن الناشطين في الحقول الاجتماعية، والبيئة اليسارية عموماً، يعبرون عن خيبة أمل به وبحكومته بسبب التخلي عن وعود قطعاها في صدد شبكة الأمان الاجتماعي لمن هم أكثر فقراً في المجتمع. وأخيراً هناك المحكمة التي تحقق في الحرب الأخيرة وما اعتراها من تقصير. وكلما تقدم العمل على هذا الصعيد بات من الملائم أن نتوقع الأسوأ لرئيس الحكومة الحالي ومعه شريكه القائد العمالي ووزير الدفاع "عمير بيريتس". وقصارى القول إن كثيرين اليوم تغريهم المقارنة بين أزمة الحكم في إسرائيل وأزمة الحكم في فلسطين، وإن اتخذت الثانية شكلاً أكثر حدّة وانطوت على احتياطي عنف تحول الديمقراطية الإسرائيليّة المستقرة دون مثله. ولا تتردد البروفيسورة تامار هيرمان، مديرة "مركز تامي ستاينماتز لأبحاث السلام" في تل أبيب، في أن تستخلص أن الإسرائيليّين كانوا في السنوات الأخيرة "شهوداً على أزمة تطال قابلية الحكم وتتشكل من عناصر ثلاثة: انحسار في فعالية مؤسسات الدولة، وتآكل في شرعيتها، وإحساس قوي بالقلق في ما خص المستقبل السياسيّ". وجملة هذا الأوضاع، لاسيما ضم ليبرمان إلى الائتلاف، يُرجّح لها أن تضاعف عوامل الارتباك في خريطة المنطقة المرتبكة جداً.