أشرنا في مقال سابق إلى حجم الدعم المالي والعسكري للدولة الصهيونية، الذي وصل حسب بعض التقديرات إلى 240 مليار دولار منذ عام 1973 حتى عام 2002، وهو مبلغ يفوق ضعف ما أنفقته الولايات المتحدة في حرب فيتنام. وحسب بعض التقديرات الأخرى يصل جملة ما أنفقته الولايات المتحدة على إسرائيل حتى عام 2002 نحو 1.6 تريليون دولار (أي 1600 مليار دولار)، هذا إذا حسبت المساعدات غير المباشرة والخسائر التي تتحملها الولايات المتحدة بسبب دعمها لإسرائيل. ويرى البعض أن المساعدات السخية والمبالغ الطائلة التي تصب في إسرائيل هي أكبر دليل على هيمنة اللوبي الصهيوني على صانعي القرار في الولايات المتحدة. والواقع أن أصحاب هذا الرأي يرصدون الظاهرة بدقة، ولكنهم ينزعونها من سياقها ولا يفسرونها، بل يستندون إلى أطروحة اختزالية شائعة. وبالمثل، فإن القائلين بأن المساعدات الأميركية لإسرائيل تشكل نزيفاً على الاقتصاد الأميركي يهملون حساب "فائدة" إسرائيل للولايات المتحدة الأميركية، ولا يدركون أن النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة تحدد مصلحتها بطريقة تجعل العائد الاستراتيجي لإسرائيل يفوق بمراحل المساعدات المالية التي تصب فيها. وإسرائيل بالنسبة لهم هي استثمار استراتيجي قد يكون له عائد اقتصادي غير مباشر، ولكن ما يهم هو العائد الاستراتيجي. ومن أهم الوظائف الاستراتيجية للدولة الصهيونية الوظيفية أنها تقوم بالأعمال المشينة التي لا تستطيع الدول الغربية الاضطلاع بها نظراً لكونها دولاً "ليبرالية" و"ديمقراطية" تود الحفاظ على صورتها المشرقة أمام الرأي العام العالمي وأمام جماهيرها بقدر المستطاع، فتوكل إلى الدولة الصهيونية مثل هذه الأعمال. وقد كان من هذه الوظائف في الماضي تزويد دول أميركا اللاتينية العسكرية بالسلاح، والتعاون مع النظام العنصري السابق في جنوب أفريقيا في كثير من المجالات، ومنها السلاح النووي، والقيام ببعض أعمال المخابرات والتجسس، والسماح للولايات المتحدة بإنشاء إذاعة فيها موجَّهة للاتحاد السوفييتي السابق. كما تقوم الدولة الصهيونية بتوفير الجو الملائم والتسهيلات اللازمة للجنود الأميركيين والحفاظ على وضع "الفوضى الخلاقة" في الشرق الأوسط. إلا أن أهم وظائف الدولة الصهيونية على الإطلاق هي الوظيفة القتالية (لا التجارية أو المالية) فعائد الدولة الوظيفية الأساسي عائد استراتيجي، والسـلعة أو الخدمة الأسـاسية الشـاملة التي تنتجها هي القتـال: القتال مقابل المـال. ومنذ البداية ركز الصهاينة الأوائل على فوائد إسرائيل لراعيها الاستعماري. وكان "حاييم وايزمان" كثير الإلحاح في تأكيد الأهمية الاستراتيجية للجيب الاستيطاني الصهيوني (لا الاقتصادية)، فقد رأى أن هذا الجيب سيشكل "بلجيكا آسيوية"، أي خط دفاع أول لإنجلترا ولاسيما فيما يتعلق بقناة السويس. وفي خطاب كتبه "إسرائيل زانجويل" (في 3 أكتوبر 1914) بيَّن أن من البديهي أن إنجلترا في حاجة إلى فلسطين لحماية مصالحها. كما أكدت "حنه أرندت" أن الصهيونية بطرحها نفسها "حركة قومية" قد باعت نفسها منذ البداية للقيام بالوظيفة القتالية الاستيطانية، فشعار الدولة اليهودية كان يعني في واقع الأمر أن اليهود ينوون التستر وراء القومية، وأنهم سيقدمون أنفسهم باعتبار أنهم "مجال نفوذ" استراتيجي لأية قوة كبرى تدفع الثمن. وقد عرض "ناحوم جولدمان" القضية بشكل دقيق جداً عام 1947 في خطاب ألقاه في مونتريال بكندا قال فيه: "إن الدولة الصهيونية سوف تُؤسَّس في فلسطين، لا لاعتبارات دينية أو اقتصادية بل لأن فلسطين هي ملتقى الطرق بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، ولأنها مركز القوة السياسية العالمية الحقيقي والمركز العسكري الاستراتيجي للسيطرة على العالم". ومعنى هذا أن الدولة الصهيونية لن تنتج سلعاً بعينها ولن تُقدِّم فرصاً للاستثمار أو سوقاً لتصريف السلع ولن تكون مصدراً للمواد الخام والمحاصيل الزراعية، وإنما سيتم تأسيسها لأنها ستقدم شيئاً مختلفاً ومغايراً وثميناً: دوراً استراتيجياً يؤمِّن سـيطرة الغـرب على العالم، وهو دور سيكون له دون شك مردود اقـتصادي، ولكنه غير مباشر. ولا تختلف المنظمة الاشتراكية الإسرائيلية "ماتزبن" (البوصلة)، في وصفها وضع إسرائيل عن وصف "جولدمان" أو "حنه أرندت"، حيث ترى المنظمة، في تحليل لها صدر في الستينيات، أن الدور الذي تضطلع به الدولة الصهيونية لم يطرأ عليه أي تغيير، فهي لا تزال تشكل قاعدة لقوة عسكرية يمكن الاعتماد عليها، قوة موجهة ضد العرب لخدمة المصالح الإمبريالية الاستراتيجية. وقد بيَّن "ب. سبير" (صحيفة "عل همشمار"، 29 أبريل 1986) أن إسرائيل قد جعلت جيشها "الذراع المستقبلية المحتملة للولايات المتحدة"، فهي خدمة حربية كامنة جاهزة على أهبة الاستعداد لتأدية الخدمات في أي وقت. ولا تزال هذه هي النغمة السائدة في الخطاب الصهيوني. فعلى سبيل المثال، يؤكد "هوارد فاينبرج" (صحيفة ذا سنترال ستيشن 13 ديسمبر 2002) أن الدعم المالي الأميركي له عائد استراتيجي عال للغاية لم يلحظه الكثيرون، لأنه لا يمكن تحويله إلى أرقام. فالأموال التي تصب في إسرائيل تدعم حليفاً يمكن الاعتماد عليه في الحرب ضد الإرهاب، فهي تقع في منطقة معادية للولايات المتحدة التي توجد في الصفوف الأمامية في الحرب ضد الجماعات الإسلامية "الإرهابية" التي تكره الولايات المتحدة ربما أكثر من كراهيتها للدولة الصهيونية. وينبه الكاتب إلى أن الضربة الإجهاضية التي وجهتها إسرائيل للمفاعل النووي العراقي عام 1981 مهدت الطريق أمام الغزو الأميركي للعراق لأنها أزالت خطر التهديد النووي العراقي. وفي مقال بعنوان "حرب بالنيابة: عدو إسرائيل هو عدونا" (صحيفة هارتفوركورانت، 4 أغسطس 2006) يتناول المعلق الأميركي، ذو الميول الصهيونية الواضحة، "تشارلز كروثمر" موضوع "فائدة إسرائيل للولايات المتحدة، فيشير إلى تحركات إسرائيل العسكرية ضد سوريا عام 1970 التي أنقذت القوى المعتدلة والموالية لأميركا في الأردن. وفي عام 1982 قامت المقاتلات الإسرائيلية الأميركية الصنع بإسقاط 4 طائرات من طراز "ميج 86" روسية الصنع دون أية خسارة من جانبها، مما بين تخلف التكنولوجيا العسكرية الروسية وشكل ضربة قاضية لمكانة الاتحاد السوفييتي في العالم، ولاعتزاز النخبة الحاكمة السوفييتية بنفسها (بما في ذلك ميخائيل جورباتشوف، الذي قام بعد ذلك بتصفية الاتحاد السوفييتي!) وقد أتاح قيام "حزب الله" باختطاف الجنديين الإسرائيليين فرصة نادرة للدولة الصهيونية لتبين فائدتها للولايات المتحدة التي أعطتها الضوء الأخضر بل وشجعتها وتشجعها على الهجوم على لبنان بضراوة ووحشية. ولم يكن هذا الهجوم في صالح إسرائيل وحدها، بل في صالح الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، لأنها تريد أن تُلحق هزيمة أكيدة بـ"حزب الله" عدوها الخطر الذي أردى 241 جندياً أميركياً قتيلاً عام 1983. كما أنه حسب التصور الأميركي حزب يحارب بالنيابة عن إيران ويساعدها على بسط نفوذها في المنطقة. هذا الأمر يفهمه حلفاء أميركا من الدول العربية المعتدلة، ولذا وقفوا ضد "حزب الله" على الفور. فهم يعرفون أن "حزب الله" لا يحارب ضد إسرائيل وحسب وإنما ضدهم وضد الولايات المتحدة والغرب. ومن هنا كانت الفرصة النادرة أمام إسرائيل، أن تبين ماذا يمكن أن تفعله لراعيها الأميركي العظيم على حد قول الكاتب. فهزيمة "حزب الله" تعني خسارة كبيرة لإيران من الناحية النفسية والاستراتيجية، فهي ستفقد موضع قدم لها في لبنان، كما ستفقد آلياتها الأساسية في الإخلال بالاستقرار في قلب الشرق الأوسط وفي إقحام نفسها في وسطه، وسيتضح لها أنها تجاوزت كل الحدود حين حاولت أن تجعل من نفسها قوة عظمى في المنطقة. والله أعلم