ورث العراق إبان استقلاله عام 1932 اقتصاداً متدني النمو، يعاني من ضعف في جميع مؤشراته، لكنه عاش عصراً ذهبياً خلال السنوات العشرين بين عامي 1960 و1980، حيث بلغ تعداد الطبقة الوسطى أعلى مستوياته، وحيث كانت حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في حدها الأعلى أيضاً. بيد أنه بعد صعود صدام حسين إلى سدة السلطة عام 1979، ثم نشوب الحرب الدموية مع إيران، أصبح العراق على سكة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، لتتكفل الحروب اللاحقة وسنوات الحصار الخارجي بما تبقى من إمكانات وقدرات اقتصادية للبلاد. وفي كتاب "الاقتصاد العراقي... الواقع الحالي وتحديات المستقبل"، والذي نعرضه هنا بإيجاز، يتابع الدكتور محمد علي زيني تقلبات البنية الاقتصادية للعراق ضمن إطار التحديات التي فرضتها عليه، طوال ربع قرن الماضي، قرارات "سياسية" تفتقد الحكمة وروح الكياسة، مشخصاً المسار التنازلي لذلك الاقتصاد ومحدداته الرئيسية. ما سببته ثلاث حروب وما نتج عن سنوات الحصار الدولي، هو المدخل الأهم، كما يرى المؤلف، إلى فهم الواقع الراهن للاقتصاد العراقي. فمن بين الأضرار التي أوقعتها حرب الخليج الأولى، أو حرب الثماني سنوات مع إيران، بالاقتصاد العراقي، خسارة 62 مليار دولا من العائدات النفطية، إضافة إلى 105 مليارات دولار نفقات عسكرية إضافية. ونتيجة لذلك تراجع الناتج المحلي العراقي الإجمالي بنسبة 1.1% سنوياً خلال فترة الحرب، ليسجل خسارة قدرها 342 مليار دولار تقريباً. ثم جاءت حرب الخليج الثانية عام 1991، لتلحق دماراً كبيراً بالبنى التحتية العراقية، بينما آل الاقتصاد العراقي إلى انهيار تام جراء 12 سنة من العقوبات الاقتصادية. فالأضرار التي خلفتها 130 ألف طن من المتفجرات ألقيت حينئذ على العراق، وألحقت أضراراً بالغة بمحطات توليد الطاقة الكهربائية، وخطوط السكك الحديدية، والطرق والجسور، والمطارات، والمباني العامة، ومصانع البتروكيماويات والحديد والفولاذ، والمراكز الرئيسية لشبكات الاتصالات... ما كان لمثل هذه الأضرار إلا أن تصيب بالشلل اقتصاد بلد نامٍ كالعراق. وإثر قانون حظر تصدير النفط العراقي، والذي يشكل المصدر الرئيسي لأرصدة البلاد من العملة الصعبة، تدنت قيمة الناتج المحلي العراقي الإجمالي من 47 مليار دولار عام 1990 إلى 12 مليار دولار عام 1991، وبذلك يكون فقد نسبة 75% من قيمته خلال سنة واحدة فقط. كما ابتليت البلاد بالتضخم المفرط في أعلى مستوياته. وفيما يخص الهيكل القطاعي للاقتصاد العراقي، يرى المؤلف أنه رغم الزيادة الفعلية في الناتج المحلي الإجمالي حتى عام 1980، فإن الاقتصاد العراقي لم يشهد تنوعاً قطاعياً مهماً، بل ظل معتمداً على النفط من حيث هو ركيزة أساسية له، وهذا ما يفسر انهياره إثر حظر تصدير النفط العراقي. لكن اقتصاد العراق ظل على ركوده، رغم عودة الحياة إلى القطاع النفطي مع تطبيق برنامج "النفط مقابل الغذاء" عام 1996، والسبب في ذلك، كما يقول المؤلف مستدركاً، هو تخصيص ما يتراوح بين 25 و30% من إجمالي العائدات النفطية لدفع تعويضات الحرب. وعن التأثيرات الاجتماعية لانهيار الاقتصاد العراقي، يذكر المؤلف أن متوسط دخل الفرد انخفض من 3984 دولاراً عام 1980 إلى 483 دولاراً عام 2003، ونتيجة لذلك صار الخط البياني لمستويات المعيشة يتجه نحو الأسفل، ليزداد الفرد العراقي فقراً على فقر. وبعد أن شهد العراق منذ عام 1960 نمواً متواصلاً في حجم الطبقة الوسطى العراقية، نلاحظ أن هذه الطبقة تضاءل حجمها أكثر فأكثر في ظل العقوبات الاقتصادية، وما أفرزته من ارتفاع شديد في معدلات التضخم والبطالة. ومع التدهور الاقتصادي المستمر، تصاعدت معدلات النمو السكاني في العراق، مما تسبب في زيادة البطالة وساهم في تقلص الطبقة الوسطى أكثر من ذي قبل. أما بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، حيث عمدت سلطات الاحتلال إلى حل كثير من المؤسسات والأجهزة وتسريح موظفيها، فقد ازدادت هذه المشكلة تفاقماً، وقدرت نسبة البطالة بأكثر من 60% عام 2004، كما تراجعت الخدمات الأساسية، كالماء والكهرباء والاتصالات... وتقلصت إلى حد كبير معظم الأنشطة الاقتصادية، في خضم غياب شامل للأمن والخدمات الرئيسية. وفي إطار الحالة الراهنة الآن في العراق، يرى المؤلف أن التحدي الرئيسي هو إشاعة الاستقرار في جوانب الاقتصاد العراقي بمجمله، وذلك من خلال التحكم فيما تواجهه البلاد من عجز مالي وآخر في حساباتها الجارية، وبخفض معدلات التضخم، وضمان استقرار سعر صرف العملة الوطنية... إضافة إلى تأمين احتياجات العراق لتمويل مشروعات إعادة الإعمار حتى عام 2007 بما يزيد على 100 مليار دولار. لكن معالجة مشكلتي الديون الخارجية وتعويضات الحرب، لا تمثل علاجاً شافياً لمعضلات الاقتصاد العراقي المستعصية، ولكي تتسنى معالجة هذا التحدي بنجاح، يرى المؤلف أنه لابد من تبني استراتيجية تقوم على ثلاث ركائز: التحول إلى اقتصاد السوق، وتنويع مقومات الاقتصاد العراقي، واتخاذ التدابير اللازمة لتحقيق نمو ذاتي. غير أن التحدي الرئيسي أمام عراق اليوم، يبقى استعادة الاستقرار وإحلال الأمن الداخلي، كأساس لتنفيذ أي خطط أو برامج للإصلاح الاقتصادي، وهنا تقع المسؤولية الأولى على الولايات المتحدة في هذه المرحلة الحالية، الحرجة والخطرة! -------------------- محمد ولد المنى الكتاب: الاقتصاد العراقي... الواقع الحالي وتحديات المستقبل المؤلف: د. محمد علي زيني الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2006