لم أفاجأ بما رأيت من تقدير واعتزاز الشعب الإسباني الصديق بالتاريخ العربي الإسلامي في الأندلس في الوقت الذي عبَّر فيه خوسيه ماريا "أثنار" رئيس وزراء إسبانيا السابق عن موقف مغاير لموقف الغالبية العظمى من الإسبان حين قال: "إن المسلمين لم يدخلوا الأندلس من أجل إنزال السلطان عن كرسي العرش ولكنهم دخلوا من أجل نزع الصليب والمسيحية من الأندلس, وهذا هو منتهى الجنون"، واستغرب "أثنار" أن يطالب المسلمون البابا بينديكت بالاعتذار عن تصريحاته المسيئة، (للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم) بينما هو (أي "أثنار") لم يسمع أي مسلم يعتذر عن احتلال المسلمين لإسبانيا ثمانية قرون! والمفارقة أن تصريحات "أثنار" جاءت في الوقت الذي تحتفل فيه نخبة مهمة من مفكري ومثقفي إسبانيا بذكرى مرور ألف وثلاثمائة سنة على دخول العرب المسلمين إلى الأندلس، بينما تحتفل مدينة المنكب "المونيكار" بعد ألف ومائتين وخمسين سنة بكونها المدينة الأندلسية الأولى التي دخلها عبدالرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك بن مروان الملقب بـ"الداخل" وبـ"صقر قريش" وقد شمخ تمثال ضخم له في أهم ساحة في المدينة نحته فنان إسباني تخليداً لذكرى الأمويين في الأندلس. وكنت قد لبيت في الأسبوع الماضي دعوة كريمة من عمدة مدينة المنكب الدكتور خوان كارلوس بينابيدس للمشاركة في ندوة بعنوان "أمويو قرطبة ودمشق" وقمت بافتتاح الحدائق النحتية السورية في المنكب وقد قدم فيها عشرون فناناً وفنانة سورية منحوتاتهم هدية للشعب الإسباني الصديق وهي أعمال مستوحاة من التاريخ الأندلسي وفيها تعبير فني رفيع عن أهمية التواصل بين الحضارات والثقافات. وقد أسعدني أن نبدأ مراسم الاحتفال بتقديم الزهور لتمثال "صقر قريش" بحضور لفيف كبير من رجال الفكر والثقافة والإعلام الإسباني الأندلسي، وقد رد عدد من المحاضرين الإسبان في الندوة الأموية على تصريحات "أثنار" ورفضوا الأفكار اليمينية المتعصبة وأشادوا بالمأثرة الإسلامية الضخمة في الأندلس، وهم يرون كما يرى عدد من كبار مؤرخي إسبانيا وأوروبا أن الفتح الإسلامي كان هبة المسلمين لأوروبا وقد أسهم في نهضتها المعاصرة. وأعتقد أن أخطر ما جاء في تصريحات "أثنار" قوله "إن الغرب والإسلام حالياً في حالة حرب فإما نحن وإما هم"، وليس أقل خطراً من ذلك وصفه لتحالف الحضارات بأنه "سخافة"، وهذه التصريحات التي تتمم تصريحات البابا التي وصفها "أثنار" بأنها "ذكية ومُحكمة" تعزز شعور المسلمين في الغرب بالقلق. ويبدو قول "أثنار" بأن الغرب "يعيش حالة خوف من الإسلام" نوعاً من التبرير لما يتم الإعداد له بشكل استراتيجي لهجوم أشد شراسة على الإسلام تنبئ عنه سلسلة الأحداث التمهيدية التي تتوالى في عدد من عواصم الغرب. وحسب القارئ أن يتصفح عناوين الأخبار ويربط بينها ليجد أن ما يتم من أعمال وتصريحات ضد الإسلام ليس عفوياً أو فردياً, وإنما هو أمر مبرمج يهدف إلى تعميق الهوة بين المسلمين والغرب، وهو في ذات الوقت يحاول ردم الهوة التاريخية بين المسيحية واليهود وتعميق التحالف بينهما، ففي الوقت الذي هاجم فيه البابا نبي المسلمين سارع إلى امتداح العلاقة التي تربط المسيحية الكاثوليكية باليهود. ونحن المسلمين لسنا ضد أن تتحسن علاقة المسيحية باليهود لأننا لسنا ضد اليهودية التي أنقذناها من محاكم التفتيش حين استضفنا يهود الأندلس في بلاد المسلمين ولاسيما في المغرب العربي آمنين مطمأنين، ولكننا لا نريد أن ينقسم العالم إلى تحالفات دينية أو عرقية أو عصبية. وقد أخطأ "أثنار" حين زعم أن المسلمين دخلوا الأندلس كي ينزعوا الصليب والمسيحية ونحن لا ننطلق في حوارنا مع أصحاب هذه الأفكار من كراهية أو انفعال أو غضب بل نجادل بالتي هي أحسن كما أمر القرآن الكريم (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) وواضح أن السيد "أثنار" دلل بكلامه عن جهل بالإسلام وبتاريخه، فكيف ينزع المسلمون المسيحية في الأندلس وهي العزيزة المكرمة في بلاد المسلمين التي هي من قبل بلاد المسيحية ومهدها. وأخشى أن يكون السيد "أثنار" ومن يرددون هذا الكلام يجهلون كذلك أن المسيحية ولدت في بلادنا العربية، وأن السيد المسيح سوري فلسطيني ولد في الناصرة، وأن المسيحية انطلقت إلى أوروبا من سوريا، ولو أن السيد "أثنار" قرأ شيئاً من تاريخ الإسلام لاعتذر عن جهله بهذا التاريخ العظيم، وحسبه أن يقرأ "العهدة العمرية" لأهل القدس وفيها إعلان صريح "يا أهل إيلياء إن لكم ما لنا وعليكم ما علينا"، وقد نصت "العهدة على ألا يضار المسيحيون "في أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، لا تهدم ولا ينتقص منها شيء،ولا يكرهون على دينهم". ونص الوثيقة مشهور، وهو من صلب الدين الإسلامي الذي اعتبر الإيمان بالأنبياء والكتب السماوية شرطاً لدخول الإسلام. وكما ولد الإسلام في رحاب المسيحية السمحاء متمماً لما فيها من مكارم الأخلاق، فإن المسيحية العربية عاشت مع الإسلام في طمأنينة وسلام دون أي صراع ديني يذكره التاريخ، ولا ينكر أحد في العالم أن أعظم تمجيد للسيدة العذراء مريم وللسيد المسيح (كلمة الله) عليهما السلام هو تمجيد القرآن الكريم لهما. وأما أن العرب المسلمين احتلوا الأندلس فهو صحيح وقد احتل إسبانيا قبلهم الرومان، وقبل الرومان احتلها السوريون الفينيقيون، والمفارقة أن السوريين القدامى دخلوا إلى الأندلس من مدينة المنكب ذاتها وسموها "سكسي" وهي كلمة فينيقية تحمل ذات معنى المنكب لأن المدينة تتنكَّب الجبال. وكان الفينيقيون هم الذين حملوا الدم السوري العربي إلى الشمال الأفريقي حين أسسوا إمبراطوريتهم العظيمة وبنوا المدن التي ما تزال عامرة إلى اليوم ومنها قرطاجة في تونس ومرسليا في فرنسا وطرسوسن وكورنثوس في اليونان فضلاً عن المدن الضخمة في إيطاليا حيث بقيت الجيوش بقيادة هانيبعل، وقد قال لي أحد أصدقائي الإسبان "أعجب لماذا يدرسوننا في التاريخ الإسباني المرحلة الفينيقية والمرحلة الرومانية بينما يسمون المرحلة العربية الإسلامية الاحتلال الإسلامي!". وبوسعنا أن نشير إلى أن القوط كانوا يحتلون مناطق من الشمال العربي الإفريقي وحين وصلت جيوش الفتح بقيادة موسى بن نصير تم تفاهم مشهور مع جوليان حاكم سبتة لتقديم عون لوجستي لجيش المسلمين، ويذكر المؤرخون الإسبان أن معركة "لكة" لم تكن معركة ضخمة ولم تحدث فيها مجازر، فالناس سرعان ما أحبوا أخلاق المسلمين ورحبوا بهم وهذا هو سر الاستمرار ثمانية قرون. بل إن أحد الأصدقاء المؤرخين الإسبان الجدد وهو الدكتور خوسيه لويس كورال لافونتي ذكر في محاضرة له في الندوة الأموية يوم 19/10/ 2006 في المنكب أنه من بلد مسيحي صغير في وسط إسبانيا اسمه "آراغون" لم يكن فيه أكثر من ستين شخصاً في الحامية، وكان بوسع المسلمين بسهولة أن يضموه إليهم وأن ينهوا المسيحية فيه، ولكنهم لم يفعلوا مثل ذلك أبداً، فقد كانوا لا يكرهون أحداً على اعتناق دينهم، ولا يعتدون على كنيسة أو معبد أو على أحد من الناس. وأثبت الدكتور خوسيه أن العرب في الأندلس لم تكن لديهم نزعة توسعية، وأنهم انشغلوا بالعمل الثقافي والحضاري، وأسسوا دولة علم ومعرفة وكانوا يحاربون لصد الهجمات المتوالية عليهم. ونحن لا نعود إلى هذا التاريخ لنبرئه تماماً من أي عمل غير لائق، فللتاريخ أحكامه، ولكننا اليوم بالتأكيد لا نطالب اليونان بالاعتذار عن احتلالهم لبلادنا العربية، ولا نشعر بأي حقد على الرومان رغم أن يوليان ترك تدمر "بالميرا" وسط سوريا خراباً وقتل ملكتها زنوبيا، بل ننظر اليوم إلى المثاقفة التاريخية مع الشعوب التي عبرت بلادنا وجعلتها أهم موقع للتعايش الإنساني والتحالف الحضاري، وهذا التحالف هو ما نريد التأكيد عليه في حوارنا في أوروبا. ولئن كان السيد "أثنار" قد عبر عن رأي شائع لدى بعض أوساط أوروبا، يرى أن الغرب لم يهاجم الإسلام وإنما الإسلام هو الذي هاجم الغرب، فإن ذلك يخرج عن سياق التاريخ بدءاً من حملة الإسكندر ومروراً بالحملات الصليبية على بلاد الشام ومصر ثم مروراً بعقود من الاستعمار الأوروبي الحديث لبلادنا، وأخشى ألا يكون انتهاء بحملة بوش وبلير الراهنة. وسيكون أمراً غاية في الخطورة على البشرية كلها أن يفكر أحد في اليمين المسيحي المتطرف بإنقاذ الصهيونية من مصير فاشل لا مفر لها منه على حساب المسلمين، وبالعودة إلى الحروب الصليبية، وهذا ما جعل المسلمين يربطون بين تصريحات البابا بينديكت وبين تصريحات البابا آرابان، ويتذكرون زلات لسان بوش وسواه كثير في الغرب ممن يضرمون نيران الحروب. لكن الشعوب في أوروبا تدرك أنها تقاد إلى حروب لا تريدها، وهذا ما عبرت عنه مظاهراتها، وتعلم أن الإعلام الصهيوني هو الذي ينفخ في كير البغضاء والكراهية، ويوهم المجتمعات الغربية بفوبيا الإسلام، ولهذا كنا وما نزال نؤكد أننا نريد أن يكون حوض البحر الأبيض المتوسط بحيرة سلام لا بحر دماء. وهذا ما يريده أصدقاؤنا وشركاؤنا الثقافيون الأندلسيون، وعندهم وهم أصحاب تجربة عريقة مع الثقافة الإسلامية بوابة رحبة للحوار مع الثقافة الأوروبية.