عندما تمت صياغة ميثاق الأمم المتحدة عام 1945 في سان فرانسيسكو، فإن المنتصرين في الحرب العالمية الثانية كانوا يتطلعون إلى تأسيس منظمة دولية تعمل على تأمين السلام العالمي، وتحول دون نشوب حريق هائل آخر كذلك الذي كانوا قد خرجوا منه تواً. بهذه المقدمة يبدأ "بول كنيدي" أستاذ التاريخ بجامعة ييل، والمؤرخ المرموق كتابه "برلمان الإنسان: ماضي وحاضر ومستقبل الأمم المتحدة"، والذي يذكرنا من خلاله بأن التناقضات داخل الأمم المتحدة حالياً، كانت موجودة عندما تم إنشاء المنظمة الدولية، وهو ما يرجع لحقيقة أنها قد أُنشئت بواسطة القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، والتي حرصت على تصميم المنظمة وفق ما تريده وما يحقق مصالحها في المقام الأول. ورغم أن الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي كانت تتكون في ذلك الوقت من 49 دولة، كانت تعكس "دولية" المشروع الجديد، من حيث إن كل دولة كانت تمتلك صوتاً واحداً بغض النظر عن حجمها أو قوتها، فإن مجلس الأمن الذي كان مكوناً من الدول الخمس العظمى، والتي كانت كل منها تمتلك حق النقض "الفيتو" على أي قرار تصدره الجمعية العامة، كان يعكس واقع الأوضاع السائدة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. كان هذا النظام في جوهره يعني أن المنظمة الدولية لن تكون شيئاً غير الذي تريده القوى الخمس العظمى، وهو ما يجعلنا نقول إن موقف اليمين الأميركي من المنظمة ووصفه لها بأنها ضعيفة وغير فعالة، هو موقف غير صائب بل وغير أمين، لأن المنظمة صممت في الأساس كي تكون كذلك. ففي حالتي البوسنة ورواندا على سبيل المثال، وقفت المنظمة مكتوفة الأيدي وهي ترى أمامها مئات الألوف وهم يذبحون لأن القوى العظمى أرادت لها أن تقف كذلك. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه عندما كانت دولة من تلك الدول تقرر العمل بشكل انفرادي، مثلما فعلت الولايات المتحدة في العراق، فإن الأمم المتحدة لم يكن في مقدورها أن تفعل شيئاً، وهو ما يرجع لحقيقة أن المنظمة هي في المقام الأول أداة للقوى العظمى. يتطرق المؤلف إلى نقطة أخرى، وهي أن أي تعديل على الميثاق الحالي للأمم المتحدة، بهدف إنشاء جيش ثابت للمنظمة مثلاً أو لزيادة عدد الدول الأعضاء في مجلس الأمن، يتطلب موافقة الدول دائمة العضوية عليه. وهكذا فرغم إنشاء العديد من اللجان، وصياغة العديد من التقارير، وتقديم اقتراحات تدعو لإجراء إصلاح بنيوي للمنظمة، فإن أحداً لم يتمكن من إقناع الدول دائمة العضوية بالموافقة على تغيير الوضع الحالي، وهو ما يقود بدوره إلى استنتاج مؤداه أنه إذا لم تكن الدول الخمس الحالية قادرة على الاتفاق على الإصلاح، فإن ذلك الاتفاق سيكون بالتأكيد أكثر صعوبة في حالة زيادة عدد أعضاء مجلس الأمن الدائمين. ويؤكد كنيدي أنه عملياً "توجد عدة منظمات أمم متحدة وليس منظمة واحدة"؛ فمواطنو الدول العظمى ينظرون إلى المنظمة كمنظمة تقتصر صلاحيتها على حفظ وفرض السلام فقط، وهي صلاحيات محدودة... أما مواطنو دول العالم النامي فيهتمون بالقوة الناعمة للمنظمة، أي بالأدوار التي تقوم بها في مجالات حقوق الإنسان، وتخفيف الفقر، واللاجئين، والصحة العامة... وهي مجالات حققت فيها المنظمة نجاحاً نسبياً. ويقول كنيدي إن المنظمة شهدت أوقات ازدهار وأوقات اضمحلال، وإن ذلك كان يتوقف على عوامل متعددة؛ منها طبيعة الظروف الدولية السائدة، وأنه رغم أن "المحافظين الجدد" أعلنوا عند الغزو الأميركي للعراق أن الأمم المتحدة قد أصبحت عديمة الجدوى وغير ذات صلة بالواقع الحالي، بسبب رفضها التفويض بغزو العراق، فإن طبيعة الظروف الحالية، وعلى رأسها الأزمة اللبنانية والمواجهة بين الغرب وإيران، دفعت القوى العظمى وعلى رأسها أميركا للتطلع نحو الأمم المتحدة بحثاً عن حل، وهو ما يثبت أن تلك المنظمة رغم عيوبها ونواحي القصور فيها، فإنها لا تزال تمثل المنتدى العالمي الوحيد لحل الصراعات وتقاسم الأعباء. في الجزء الأخير من الكتاب، يتساءل كنيدي عما إذا ما كانت الأمم المتحدة قادرة على إعادة صياغة نفسها كي تتماشى مع حقائق القرن الحادي والعشرين أم لا؟ ويحاول تقديم الإجابة على ذلك السؤال من خلال القول إن ذلك ممكن شريطة أن تتنازل القوى العظمى عن بعض سلطاتها، وتقوم بتفويضها للمنظمة الدولية لأن سلطاتها الحالية تقصر عن مواجهة احتياجات عالم يتحول بشكل حثيث إلى عالم متعدد الطبقات ومترابط داخلياً من خلال شبكة معقدة من الروابط والحلقات. وكنيدي يضع نفسه في هذا الجزء في صف الإصلاحيين الذين يرومون تقوية نظام الأمم المتحدة عبر تحقيق تقدم متدرج من خلال أسلوب الخطوة خطوة والذي يشمل كافة الأجزاء المكونة لبنية المنظمة، مع العمل في الوقت نفسه على تعزيز أدوار المنظمات التابعة لها في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية، والعمل على توسيع مجلس الأمن كي يكون معبِّراً عن حقائق القوة في القرن الحادي والعشرين، والقيام أيضاً بتحقيق درجة أكبر من التعاون الوثيق مع المنظمات الدولية الأخرى. ويؤكد كنيدي أنه يعرف مدى صعوبة التحديات التي ستواجه المنظمة في سبيل تحقيق ذلك، خصوصاً على ضوء موازين القوة العالمية الحالية... لكنه مع ذلك يعرب عن تفاؤله بأن المنظمة ستتمكن في النهاية من مواجهة تلك التحديات، والتغلب عليها وإثبات قدرتها على مواكبة التغييرات والمستجدات المتسارعة التي يشهدها عالمنا. ------------ سعيد كامل الكتاب: برلمان الإنسان: ماضي وحاضر ومستقبل الأمم المتحدة المؤلف بول كنيدي الناشر: راندوم هاوس تاريخ النشر: 2006