نقف اليوم على كتاب المؤلف نيكولا بلانفورد، الصادر للتو، وعنوانه "مصرع الزعيم اللبناني: اغتيال رفيق الحريري وتأثيراته على منطقة الشرق الأوسط". وفي استعراض سريع نبدأ بقول أحد المعلقين، إن الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان تعد من أغرب الحروب وأكثرها استثناءً. ذلك أنه لم تسبقها توترات واضحة ومتصاعدة بين الجانبين، كما لم تسبقها قعقعة سلاح ولا سيوف، ولم تتجمع في سماء أي من البلدين قبلها تلك السحب الداكنة الكثيفة، المنذرة باقتراب موعد العاصفة، فتدفع الناس لاتقاء شرها ما وسعتهم الحيلة والوقت لذلك! وعليه فقد حلت تلك الحرب على لبنان من العدم والفراغ، رغم الذرائع والمسوغات التي تخفّت خلفها إسرائيل. وبالنتيجة فقد لحق الدمار الماحق بلبنان، بعد كل الجهد الذي بُذِلَ في بنائه على خطى الدولة الديمقراطية الحديثة، المتعددة الثقافات والأديان والأعراق. فما الذي حدث هنا على وجه التحديد؟ الحقيقة أن كارثة الحرب الأخيرة هذه، قد طغت على غيرها، وكادت تسدل الستار على ما شهده لبنان خلال العامين الماضيين، من قلاقل واضطرابات سياسية، أعقبت جريمة اغتيال رئيس وزرائه السابق رفيق الحريري. وأول تداعيات هذه الجريمة، كما يقول المؤلف، أنها لم تخلف وراءها دماراً مادياً يمكن ملاحظته، غير أنها تمكنت من تمزيق نسيج التوافق الاجتماعي الذي حافظ على بسط الأمن والسلام هناك، منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، وحتى وقوع الجريمة المشؤومة. وإذ يكتب نيكولا بلانفورد عن مصرع رفيق الحريري وتأثيراته وتداعياته على نطاق الشرق الأوسط كله، إنما يكتب بعين الخبير العارف ببواطن الأمور وخباياها عن كثب. فقد عاش بلانفورد في بيروت لما يزيد على عقد كامل من الزمان، حيث عمل مراسلاً لصحيفتي "كريستيان ساينس مونيتور" و"نيويورك تايمز". وبحكم هذه الإقامة والخدمة الطويلة في لبنان، فهو لاشك من أشهر الخبراء العارفين بشأن السياسة اللبنانية ومساراتها، لذلك جاءت كتابته عن حياة ومصرع الحريري... دقيقة، موضوعية ومتوازنة، فضلاً عن صدقها ورؤيتها النقدية. وضمن هذه الموضوعية، كان طبيعياً أن يرفض المؤلف كل تلك التأويلات التبسيطية الساذجة التي سعت إلى تفسير ما أطلق عليه اسم "ثورة الأرز" في وصف تلك المظاهرات والمواكب الشعبية التي عمت العاصمة بيروت وضواحيها في عام 2005، مطالبة برحيل القوات السورية من أراضي لبنان! وأوضح المؤلف أن عبارة "ثورة الأرز" قد أطلقتها في الأصل باولا دوبريانسكي، وكيلة وزارة الخارجية الأميركية للشؤون الدولية، في محاولة منها لإظهار قدرة الشعوب وإرادتها في التعبير، في ظل وجود الاتحاد السوفييتي السابق. أما التعبير الذي فضله المؤلف -وشاطره فيه كثير من اللبنانيين أنفسهم- فهو "انتفاضة الاستقلال". ورغم ميل الكاتب لوجهة النظر العامة القائلة إن لدمشق مصلحة عليا في رحيل الحريري، وإنه ربما كان هناك من كبار قادة المخابرات السورية من شارك في تدبير هذه الجريمة وتنفيذها، فإنه لم يستغرق كثيراً في تفاصيل التحقيق حول ملابسات الجريمة والمسؤولين عنها. وبدلاً من ذلك، فقد ترك المؤلف الكشف عن هذا الجانب لمسار التحقيقات الجنائية الجارية، في حين استثمر الجزء الأعظم من وقته وجهده في تناول شخصية الحريري باعتباره نموذجاًللقائد العربي القادم إلى السياسة من باب الاستثمار والحداثة والليبرالية والذهنية المنفتحة البناءة. ورغم ذلك فالكتاب ليس مكرساً لامتداح الحريري أو تحويله إلى صنم، بقدر ما هو تحليل للسياسة اللبنانية نفسها من خلال أحد قادتها وزعمائها، وما آلت إليه حياته جراء الطبيعة المعقدة المضطربة التي عرفت بها سياسات بلاده. وضمن ذلك شبّه المؤلف زعماء السياسة اللبنانية بالبارونات الإنجليز في القرون الوسطى، وزعماء أميركا اللاتينية في القرن التاسع عشر، من جهة مطالبتهم لأنصارهم بالولاء المطلق لهم، حتى وإن أعطى هؤلاء الزعماء الحق لأنفسهم في تغيير مواقفهم وولاءاتهم هم، وإبرام الصفقات مع خصومهم السابقين. وقال إنه لم تكن ثمة مليشيا تابعة للحريري، إلا أنه استبدل قوة المليشيا في فرض الولاء بقوة المال والهبات والعطايا، بصفته رجل أعمال وزعيماً سياسياً في وقت واحد. أما الحملة التي قادها ضد سوريا في آخر حياته، فلم تكن لتنطلق -في رأي المؤلف- من مواقع عداء أيديولوجي أو سياسي لدمشق، كما أنها لم تكن لتتصل بأية دوافع ترمي لخفض المواجهات مع إسرائيل، بقدر ما لها علاقة بإدراكه لإعاقة سوريا لتقدم الحركة السياسية في بلاده. والدليل على ذلك، أن الحريري نفسه كان على صلة وثيقة بالقادة السوريين. أما عن علاقة الحريري بـ"حزب الله" وقائده السيد حسن نصرالله، فقد وصفها بلانفورد بـ"الوثيقة" من خلال اللقاءات والمحادثات السرية التي كانت كثيراً ما تجري بينهما. لذلك ورغم الوفاق الكبير بينه وبين واشنطن، فإن الحريري لم يكن ليشاطر إدارة بوش الحالية مطلقاً وصفها لـ"حزب الله" بالمنظمة الإرهابية، ولا يؤيدها في مطالبتها بتسريح قواته ونزع أسلحته. أما في تناوله لتداعيات مصرع الحريري، فقد قال المؤلف إنه أفرز حالة من الاستقطاب السياسي المؤقت داخل لبنان نفسه، تفاقمت نتيجة للضغوط المفروضة من قبل كل من فرنسا وأميركا، وإنه كان يمكن للأوضاع أن تسوء أكثر مما هي عليه، لولا الحرب الإسرائيلية الأخيرة التي فرضت وحدة سياسية داخلية لمواجهة خطرها ومهدداتها الوطنية. وبرحيل الحريري، يرى المؤلف انهيار نموذج سياسي كان في وسعه إلهام المنطقة العربية كلها، ودفعها على خطى الحداثة والديمقراطية الليبرالية. ------------ عبد الجبار عبد الله الكتاب: مصرع الزعيم اللبناني: اغتيال رفيق الحريري المؤلف: نيكولا بلانفورد الناشر: مطبعة "تاوريس" للنشر تاريخ النشر: 2006