بما أنني أمضيت جزءاً مُقدراً من حياتي في تغطية أخبار وتطورات تغيير الحكومات بواسطة الانقلابات العسكرية والدبابات والبنادق في الكثير من الدول من حولنا، فإنني لأجد نفسي في موقف ذهول وإعجاب عند رؤيتي لذهاب ملايين الأميركيين في كل مرة لصناديق الاقتراع، للتقرير السلمي الخالي من الصدامات والدماء، حول من يحق له أن يحكمهم، أو من يشرِّع لهم. لكن على رغم ذلك، فإن هناك ما يثير التساؤلات الحائرة حول مفارقات انتخابات "التجديد النصفي" للكونجرس لعام 2006، التي لا تفصلنا عنها سوى بضعة أيام فحسب. والحكمة السياسية المتعارف عليها عادة هي أن يقرر أداء ومزاج الاقتصاد القومي، وليس السياسة الخارجية، النتائج النهائية التي تسفر عنها انتخاباتنا العامة. وكما نذكر فقد خسر جورج بوش الأب فرصة إعادة ترشيحه للمنصب الرئاسي، بسبب الاهتمام الكبير الذي أولاه منافسه بيل كلينتون لرأي مستشاريه الذي عول على الجانب الاقتصادي. ولكن يا للغباء. فإن أداء الاقتصاد الأميركي اليوم -في ظل إدارة بوش الحالية- لهو أفضل حالاً بكثير مما كان عليه في عهد أبيه. وليس أدل على ذلك، من تجاوز بورصتنا القومية لسقف الـ 12 ألف نقطة. وفي الوقت ذاته انخفض معدل البطالة إلى ما دون نسبة 4.6 في المئة، بينما تشهد أسعار الوقود انخفاضاً ملحوظاً عشية الانتخابات. بيد أن السياسات الخارجية، متمثلة فيما يحلو للجمهوريين تسميته بـ"الحرب على الإرهاب" وللديمقراطيين بـ"الحرب على العراق"، هي التي تقرر الآن مصير انتخابات هذا العام. فمن جانبه رأى الحزب الجمهوري في نانسي بيلوسي، زعيمة الأقلية في مجلس النواب، "ساحرة الغرب الشريرة" أو "ساحرة كاليفورنيا الشريرة" على الأقل. ولا تراوده أدنى شكوك في أنها وفيما لو قدر لها أن تكون الناطقة الرسمية باسم المجلس، أن تتردد لحظة في إعلان الاستسلام والانسحاب الفوري المخزي من العراق. ومن ناحيتهم رأى خصومهم الديمقراطيون في ثالوث بوش- تشيني- رامسفيلد، "ثلة أمراء حرب"، تفعل ما وسعها من أجل تقويض وهدم الديمقراطية في الداخل، بينما تعمل معول هدمها العسكري خارج الحدود. ومن المفارقات أيضاً أنه يجري الآن استخدام انتخابات هذا العام للتجديد النصفي كبالون اختبار للانتخابات الرئاسية المرتقبة في العام 2008. وفي هذه الممارسة ما يثير فضول ودهشة المراقبين للعملية السياسية الأميركية في الدول الأخرى، من غير الأميركيين. فالمعروف أن أمد الحملات الانتخابية في غالبية تلك البلدان، لا يزيد على ستة أسابيع. وعلى الرغم من أنه لم يتم ترشيح أحد بعد لتلك الانتخابات، إلا أن الكثيرين ممن يعتبرون أنفسهم مرشحين غير معلنين للمنصب الرئاسي، شرعوا في تنظيم حملاتهم سلفاً. وبين الأسماء الجمهورية في هذه القائمة، كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الحالية، التي أكدت للصحفيين الذين ألحوا عليها، عدم رغبتها في المنصب الرئاسي من حيث الأساس. غير أن المؤكد أن السيناتور جون ماكين من ولاية أريزونا، يُعد من بين مرشحي الحزب الجمهوري. ولذلك فقد بدأ ماكين بالطواف على كل الولايات الأميركية بقصد إلقاء الخطب وحشد المؤيدين والناخبين، علاوة على تبادل الخطب النارية مع منافسته الديمقراطية عن ولاية نيويورك، هيلاري كلينتون. ثم دونك "مت رومني" من ماساشوستس، وهو يبذل جهوداً مستميتة من أجل التدليل على أن في وسع حاكم لولاية ليبرالية مثل ولايته، حصد تأييد الناخبين وضمان مساندتهم له. وفي المقابل، هناك "بيل فيرست"، الذي يحاول التأكيد على قدرة حاكم مثله لولاية تنيسي، أن يتولى إدارة شؤون البلاد كلها، وعلى أفضل وأكفأ ما تكون الإدارة. ومهما يكن من أمر هؤلاء المرشحين، على تعددهم وكثرتهم الآن، فإن الأكثر إثارة للمفارقة والعجب في حملة انتخابات هذا العام، هو إغفالها للقضية التي يفترض فيها أن تكون الأهم والأكثر حسماً في كافة سياساتنا الداخلية. وأعني بها تعرض بلادنا لخطر الاعتماد على موارد الوقود الأجنبي، لاسيما النفط. يذكر أن فريق خبراء رفيع المستوى، مكلفاً من قبل مجلس العلاقات الخارجية، يترأسه وزير الطاقة والدفاع السابق، "جيمس شليزنجر"، كان قد أعلن في تقرير صادر عنه في شهر أكتوبر الحالي، أنه على الأميركيين خفض معدل استهلاكهم لوقود النفط، تمهيداً للكف عن الاعتماد عليه تماماً في نهاية المطاف. وأعلن الفريق المكلف أن الأصوات التي اعترضت على النداءات السابقة المبكرة، الداعية إلى ضرورة تحقيق استقلال البلاد في مجال الطاقة، لم تكن لتتوخي مطلقاً خدمة المصالح القومية الأميركية العليا. وكما جاء في تصريح "شليزنجر"، فإن التحدي الأكبر الذي نواجهه في العقود المقبلة، هو إدارة تداعيات اعتمادنا الذي لا مناص منه، على موارد النفط والغاز، في ذات الوقت الذي ننتقل فيه تدريجياً، إلى نمط اقتصادي جديد، أقل اعتماداً على البترول. وجاء في التحذير الذي تضمنه تقرير الفريق المشار إليه أعلاه بصيغة واضحة: "كلما أبطأنا في مواجهة هذا التحدي والتصدي له، كلما جاءت العواقب أكثر سلبية وأسوأ أثراً". وما في تجاهل بعض خيرة عقولنا الأميركية لهذه الحقيقة خلال انتخابات العام الحالي، سوى ترجيح لفداحة هذه العواقب وسلبية تأثيرها الوخيم علينا. فهل تعود الحملة الانتخابية الحالية إلى رشدها، وتمسك بجوهر ما يمس مصالح الأميركيين العليا، ويخدم قضاياهم الأساسية؟ جون هيوز ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مساعد وزير الخارجية الأميركي الأسبق في إدارة الرئيس ريجان ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"