لقد تأخرت تلك الفكرة كثيراً... ولكنها جاءت في نهاية المطاف. هذه الفكرة هي تلك التي تقول إن إيجاد حل للأوضاع في العراق هو مشكلة العراقيين في الأساس، وأن أميركا قد بذلت ما في وسعها وأن الدور الآن على العراقيين! وقد عبر وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد عن هذه الفكرة بوضوح في تصريح أدلى به مؤخراً وقال فيه، مشيراً إلى العراقيين: "إن البلد بلدهم ويجب عليهم أن يحكموه... ويوفروا له الأمن... وأن يفعلوا ذلك اليوم قبل الغد". وجوهر هذه الحجة يقوم على أننا قد بذلنا ما في وسعنا وليس في مقدورنا أن نفعل أكثر مما فعلنا، وأننا سنخرج الآن، وعلى العراقيين أن يحلوا مشكلاتهم -أو لا يحلوها، فهذا شأنهم. والحقيقة أن هذا الجوهر مغلوط ويدعو للاحتقار، كما أنه يعرض أمن الأميركيين في مختلف أنحاء العالم للخطر. فالأميركيون هم الذين احتلوا العراق، وهم الذين أطاحوا بنظامه وهدموا مؤسساته التي كانت قادرة على المحافظة على النظام المدني، وهم الذين وصفوا أنفسهم بأنهم "قوة احتلال" مما يعني أنهم قد قبلوا بالمسؤولية عن استعادة الأمن والنظام والمحافظة عليهما. ولكن الذي حدث للأسف هو أن القيادة الأميركية لم تجعل ذلك أولوية قصوى لها، وإنما اكتفى قائدها جون أبي زيد بالقول إن مهمته تقتصر على تدريب العراقيين على كيفية استرداد الأمن والنظام والمحافظة عليهما. وبسماحها بانتشار العنف والفوضى في مختلف أنحاء العراق، فإن إدارة بوش تخلت عن الوعد الذي كانت قد قطعته على نفسها أمام الشعب العراقي، وتجاهلت مسؤولياتها، وعرضت أمن الولايات المتحدة نفسها للخطر، عندما سمحت للإرهابيين بإنشاء ملاذ آمن في العراق. وتنفيذ انسحاب سريع من العراق في الظروف الراهنة، ستترتب عليه كارثة مؤكدة، حيث تعمل القوات الأميركية إلى حد كبير كمانع يحول دون انخراط العراقيين فيما يعرف بـ"فرق الموت" التابعة لقوات الأمن (رغم أنها لم تحل دون ذلك تماماً)، وانسحابها الآن سوف يجعل تلك الفرق تعمل بحرية بدون رقيب ولا عائق، بل قد تنتشر تلك الفرق في الجيش نفسه. علاوة على ذلك فإنه لا يوجد هناك أي احتمال لأن يتمكن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي من تنفيذ المهام المنوطة به دون مساعدة أميركية. وهذه المهام تشمل إصلاح وزارة الداخلية، وقوات الشرطة، ونزع أسلحة المليشيات الشيعية، ومحاربة المتمردين من العرب السُّنة، وتأسيس حكومة عاملة، ودوائر محلية ومناطقية تابعة للحكومة المركزية، واستئصال شأفة الفساد. والذي سيحدث في حالة انسحاب القوات الأميركية هو أن الرجل لن يتمكن من تحقيق أية مهمة من تلك المهام، وسيتصاعد العنف الطائفي، وسيصبح العراقيون أكثر يأساً من نجاح تجربتهم الديمقراطية. لذلك فإن هذا الانسحاب المتعجل يجب ألا يحدث، ويجب علينا أن نعرف أن مصالحنا القومية تحتم علينا توفير الأوضاع التي ستسمح للحكومة العراقية بتحقيق السلام والأمن وتعزيزهما، وتأسيس منظومة حكم رشيدة وصالحة، وأي شيء دون ذلك معناه أننا قد فشلنا في المهمة، وأننا قد هزمنا في أعين أعدائنا وسنكون بذلك قد ألحقنا بأنفسنا العار. وستترتب على ذلك أيضاً تقوية أعدائنا الذين سيصبحون أكثر جسارة، وأكثر قدرة بعد ذلك على تهديد أمننا القومي بصور شتي. إن ذكريات تخلينا عن انتفاضة الشيعة والأكراد عام 1991 لازالت حية في أذهان العراقيين، وقيامنا بذلك الآن سيرسخ فكرة أن أميركا تتخلى دائماً عن أصدقائها في الأوقات الحرجة. ولن يفيدنا عندئذ أن نقول إن مسؤولية الفشل في العراق تقع على عاتق العراقيين، وإن الأميركيين قد بذلوا قصارى جهدهم ولم يكن هناك ما يقدمونه. وإذا ما قمنا بذلك فإن أي قوى من قوى الاعتدال في الشرق الأوسط، لن تكون على استعداد لتصديق الأميركيين أو الاعتماد عليهم، وهو ما سيزيد الطين بلة في هذه المنطقة الحرجة من العالم. فريدريك دبليو. كاجان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ باحث في معهد "أميركان انتربرايز" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"