لماذا بعد سنتين فقط من انتخابه عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي، استطاع باراك أوباما تحقيق كل هذا القدر من الشعبية وإذهال الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء؟ يمتلك ذلك السيناتور الديمقراطي من ولاية إلينوي، قدرة عالية في فن الخطابة وتوظيف اللغة إلى درجة الاستئثار بانتباه مستمعيه وشدهم إليه. لكن ليس ذلك وحده ما يفسر شعبيته الطاغية لدى عموم الشعب الأميركي، رغم أن عمره لا يتجاوز 45 عاماً، بل الأهم من ذلك أن أوباما يعيد إلى الأذهان حماس الأميركيين الأوائل وتشبثهم بالحلم الأميركي، محاولاً من خلال كتابه الذي نعرضه اليوم، وعنوانه "جرأة الأمل"، استعادة ذلك الحلم وإتاحته مرة أخرى للأميركيين بعد إزالة الشوائب التي علقت به وأحالته إلى سراب بعيد المنال. هكذا يبدأ السياسي الأميركي من أصول إفريقية، والذي يتنبأ له كثيرون بدخول البيت الأبيض في يوم ليس ببعيد، بالحديث في مذكراته عن قصته التي تجسد الحلم الأميركي. فهو ينحدر من أصول كينية، حيث كان جده لأبيه يرعى الغنم في إحدى القرى، وانتقل والده إلى الدراسة في هاواي بعد حصوله على منحة دراسية. وفي الجامعة تعرف على أمه ذات البشرة البيضاء ليتزوجا بعد معارضة الأسرتين. وفي ظل هذه البيئة العرقية المتنوعة، ترعرع أوباما لينتقل مع أسرته إلى إندونيسيا ويمكث هناك لفترة من الزمن، عاد بعدها إلى الولايات المتحدة والتحق بكلية الحقوق في جامعة هارفارد الشهيرة. هذا التنوع في حياة المؤلف وأصوله المتعددة ذات البعدين، الإفريقي والأوروبي، ثم نجاحه في دخول السياسة الأميركية عبر الحزب الديمقراطي الذي فتح له المجال، جعله تجسيداً حياً للحلم الأميركي المبني على تكافؤ الفرص أمام الجميع وإمكانية تحقيق النجاح بصرف النظر عن الأصول العرقية، أو الآراء السياسية. وربما كانت هذه التعددية التي تطبع شخصيته والتنوع الذي صاحبه منذ طفولته المبكرة، سبباً وراء مطالبته في كتابه هذا بانتهاج سياسة ليبرالية تنسجم مع فلسفة الحزب الديمقراطي، لكنها تميل إلى الوسط باقترابها أكثر من البراجماتية وابتعادها عن التصورات المجردة والمثل العليا، رغم إيمانه بها. إنها ليبرالية تحترم الخصوصية الأميركية، لاسيما الحساسية الدينية التي كثيراً ما هاجمها الديمقراطيون ليعيد لها أوباما الاعتبار عندما صرح في خطاب له عام 2004 بأن "الديمقراطيين يؤمنون أيضاً بالله". غير أنه يعتبر أن المبادئ التي ينادي بها الجمهوريون مثل إعفاء الشركات الكبرى من الضرائب في إطار رؤيتهم الاقتصادية التي ترفض تدخل الدولة، يتعين مراجعتها عبر الاهتمام بالفقراء والمعوزين والإسهام في حل المشاكل الاجتماعية. والكتاب يحاول أن يقيم توازناً بين السياسة الليبرالية ذات الجذور الراسخة في أميركا، وبين المحافظين الذين يسعون إلى التضييق على إحدى أهم مقومات الشخصية الأميركية متمثلة في الفردانية والحرية الشخصية. وكما أوضح المؤلف في خطابه الشهير الذي ألقاه في مؤتمر الحزب الديمقراطي عام 2004، لا توجد ولايات حمراء وأخرى زرقاء، بل توجد فقط الولايات المتحدة الأميركية التي تصهر في بوتقتها جميع الأميركيين بمختلف مشاربهم وآرائهم. بيد أنه يحذر في الوقت نفسه من مغبة تفاقم الانقسامات الطبقية في المجتمع الأميركي والتي باتت تسمم العلاقات بين مختلف فئات المجتمع. وإذا كان أوباما يدعو في كتابه الجديد إلى الاهتمام بشؤون الطبقة العاملة في أميركا وعدم الارتهان إلى سياسات اقتصادية بعينها تقفز عن الواقع ومشاكله وتتمسك برؤى أيديولوجية متعالية، كما يفعل الجمهوريون، فإنه لا يبتعد عن التقاليد الأميركية في النظر إلى الاقتصاد كممارسة مستقلة عن الدولة، وأن الحكومة ليست مسؤولة عن القضايا الاجتماعية، ولا مطالبة بحلها؛ إنما يتعين على قوى المجتمع المدني التحسيس بمشكلات التعليم والأحياء الفقيرة وتسليط الضوء عليها بهدف إدراجها في أجندة النقاش السياسي. فالسياسيون المنتخبون، حسب أوباما، يستمدون شرعيتهم، ليس فقط من الناخبين الأغنياء الذين يتبرعون لهم في حملاتهم الانتخابية، بل هم أيضاً مدينون لأصحاب الأصوات الفعلية الذين حملوهم إلى الكونجرس. والكتاب لا يزعم تقديم الحلول الكفيلة بإخراج أميركا من جميع مشاكلها، لكنه يسعى إلى استعادة الروح التي قادت أميركا إلى تحقيق إنجازاتها العظيمة؛ مثل الإيمان والمساواة في الفرص، والتسامح الديني. لذا يطرح من الأسئلة أكثر مما يجيب عليه، ومن تلك الأسئلة: كيف يمكن تشجيع المبادرة الخاصة والاستثمار دون تنمُّر الشركات على القوى العاملة؟ وكيف يمكن الموازنة بين ضرورة توفير الوظائف في الداخل وفوائد العولمة؟ ورغم أن الكتاب لا يأتي بأجوبة تزعم احتكار الحقيقة، فإن الغرض من إثارتها، كما يقول المؤلف، هو إدخالها إلى بؤرة النقاش العام والعمل الجاد على إيجاد حلول لها. ويعرِّج المؤلف أيضاً على جذور العداء لأميركا في العالم وانحسار شعبيتها، من دون أن يدين السياسات الأميركية في الخارج. فإذا كانت السياسة الخارجية الأميركية قامت بدعم بعض أسوأ الأنظمة في العالم، فإنها أيضاً ساهمت في تسهيل النمو الاقتصادي للنمور الآسيوية بمنحها حوافز اقتصادية وتشجيعها على الانفتاح ونهج اقتصاد السوق. هذه النبرة التوفيقية بين الجمهوريين من جهة والديمقراطيين من جهة أخرى، وبين مصالح الطبقة العاملة والشركات الكبرى، تميز الكتاب وتجعل من الصعوبة بمكان تصنيف أيديولوجية المؤلف، عدا أنه من المؤمنين بالحلم الأميركي والمطالبين باستعادته في الحياة اليومية. زهير الكساب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكتاب: "جرأة الأمل: أفكار حول استعادة الحلم الأميركي" المؤلف: باراك أوباما الناشر: كراون تاريخ النشر: 2006