"حينما تحسُّ أنّ كلّ يومٍ يمرُّ بك هو أسوأ من الذي سبقه... وكل يومٍ مضى هو أحسنُ مما سيجيء... ومع ذلك تقول: الله كريم... فأنتَ عراقي. حينما تحسُّ أنك لم تعد تستحقُ الحياة... ولكنك -مع ذلك- لا تنتحر... فأنتَ عراقي". هذه سطور من رسالة يتبادلها العراقيون عبر الإنترنت. كتبت الرسالة المترجمة الشابة ريم قيس كُبّه، التي تعمل في "دار المأمون للترجمة والنشر" ببغداد. وريم كُبّه شاعرة أيضاً، نال ديوانها الصادر عام 2005 (وعنوانه متى ستُصَّدق أني فراشة) جائزة "الصدى" للمبدعين في دولة الإمارات العربية المتحدة. ولعل رسالتها في الإنترنت تبيّن شعورها عند فوزها بالجائزة: "حينما تحسّ أنكَ أمامَ لحظات الفرح الحقيقية تبكي... وتجدُ نفسكَ مذهولاً هازئاً أمام الموت... فأنت عراقي". وللمترجمين العراقيين نصيب كبير من الموت الذي يضعهم مع العسكريين والأطباء، في رأس قائمة أصحاب المهن القتلى والمشردين. وكغيرهم من الضحايا العراقيين، لا يُعرف عددهم إلاّ عندما يتعلق الموضوع بحسابات الكلفة الأميركية. إحصائية "وزارة العمل الأميركية" ذكرت أخيراً أن عدد المترجمين القتلى داخل العراق بلغ حتى أغسطس من العام الحالي 199 والجرحى 491. ويخص هذا الرقم الشركة الأميركية "تيتان" Titan فقط, وهي المجهزة الرئيسية للمترجمين العاملين مع الوحدات القتالية والاستخبارية، وفي استجواب الأسرى والمعتقلين. كم عدد قتلى المترجمين العاملين في السفارة الأميركية، والتي تعتبر أكبر الممثليات الدبلوماسية الأميركية في العالم، وكم عددهم في هيئات المستشارين الأميركيين داخل الوزارات العراقية المختلفة، وفي مئات المكاتب الخاصة بالصحف والتلفزيون والشركات الأميركية، وما تُسمى "المنظمات غير الحكومية"؟ مأساة المترجمين العراقيين العاملين مع الأميركيين بدأت في وقت مبكر من الاحتلال. ففي 4 يونيو 2004 تحدث تقرير في صحيفة "نيويورك تايمز" عن مترجمين شباب أغرار خدموا بحماس قوات الاحتلال، معتقدين أن الأميركيين جاءوا لمساعدة العراق. بعضهم لم يذكروا حتى لعوائلهم أين يعملون، وآخرون اضطروا إلى تغيير مساكنهم مرات عدة، إثر تلقيهم رسائل تهديد بالقتل. والله وحده يعرف كم تضرعوا دون جدوى لرؤسائهم الأميركيين لإنقاذ عوائلهم من القتل، وكيف هربوا بأرواحهم إلى عمان ودمشق، حيث ينتظرون عبثاً، حسب "نيويورك تايمز" الحصول على سمة دخول للولايات المتحدة، كلاجئين أو سياح. ويروي تقرير بعنوان "قصة مترجم" مأساة كوران حبيب الذي عمل لحساب شركة "تيتان" في كركوك شمال العراق. بدأت القصة، حسب تقرير مركز "مراقبة الشركات" الأميركية CorpWatch، عندما أصيب المترجم العراقي مع ابنته بعدة طلقات نارية كادت تقضي على حياتيهما. وقع الحادث على مقربة من القاعدة العسكرية الأميركية في كركوك، والتي يعمل فيها. نقل الإثنان بطائرة مروحية إلى قاعدة "أناكوندا" في مدينة "بلد" التي تعتبر أكبر القواعد العسكرية الأميركية في العراق. واعتذر الأطباء العسكريون بعدم توفر أدوية خاصة بالأطفال لعلاج ابنته، واضطر لنقلها إلى مستشفي خاص إيطالي في مدينة السليمانية. ورفضت شركة التأمين على حياة المترجمين العاملين مع القوات الأميركية علاج عموده الفقري الذي أصيب بعطب في المستشفى العسكري الأميركي في ألمانيا أسوة بالمترجمين العراقيين الذين يحملون الجنسية الأميركية. كما رفضت دفع نفقات علاج ابنته، مدّعية أن العقد لا يشمل أفراد العائلة. علماً بأن المرتب الشهري للمترجم المحلي 700 دولار فقط، وهو أقل عشر مرات من مرتب المترجمين الذين يحملون الجنسية الأميركية، رغم أن عمل الأخيرين مكتبي، ولا يرافقون الوحدات العسكرية في العمليات الميدانية. وذكر مسؤول فرع شركة "تيتان" في العراق أن ثلثي المترجمين العراقيين الذين اغتيلوا، كانوا قد تلقوا تهديدات بالقتل "إذا واصلوا عملهم الخياني". وتدل عمليات الاغتيال على عمق كراهية السكان للمترجمين العراقيين والعرب الذين يعملون مع قوات الاحتلال. ومن ذلك أنه في إحدى حوادث الاغتيال، اخترقت 56 طلقة نارية جسد مترجمة عراقية تعمل في المنطقة الخضراء. ويتوارى الآن المترجمون، كالظلال خلف المجندين الأميركيين تجنباً لعدسات التصوير، أو يرتدون، كالقوات الخاصة، أقنعة لإخفاء وجوههم عند مشاركتهم في اقتحام المنازل خلال الحملات التفتيشية، أو أثناء التحقيق مع الأسرى والمعتقلين. وتحدث مترجم عربي عمل في سجن "أبو غريب" لمراسل صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" عن الحقد الوحشي الذي كان ينبعث من عيون المعتقلين العراقيين، ويشعر به يلتف حول عنقه كالغلّ. وقال إنه لم يكن يطمئن إلاّ عندما توضع القيود في أيدي المعتقلين عند استجوابهم. ويحدث أحياناً حين يوجه سؤالاً بالعربية الفصحى للمعتقل أن يتلقى بدلاً من الجواب بصقة في وجهه. وذكر مترجم عربي آخر أنه أوصى أفراد وحدته العسكرية بقتله إذا وقع بأيدي المقاومة. وعندما يقول زملاؤه أنهم لن يجرؤوا على ذلك يستحلفهم: "اقتلوني أرجوكم". وقد قُتل وتشرد مئات المترجمين العراقيين والعرب من دون أن يعرفوا حجم الشبكة الأخطبوطية التي التفت حول أعناقهم، والفساد الهائل الذي يتخلل أعمالها. افتضح ذلك عند الكشف عن دور إحدى كبريات الشركات المعنية باستقطاب المترجمين في أعمال التعذيب والاغتصاب داخل سجن "أبوغريب"، وبينها جريمة اغتصاب أحد منتسبيها صبياً عراقياً سجيناً. وظهر من تحقيقات "هيئة التأمينات والتبادل" SEC، وهي وكالة حكومية أميركية، أن تلك الشركة متورطة في أعمال تزوير حسابات، ورشاوى في أربع دول، ضمنها العراق. وكانت الشركة قد جنَّدت عشية الغزو عراقيين أميركيين لا يملكون أي مؤهلات، للعمل كمترجمين، ويعمل بعضهم كطُهاة، أو سائقي تاكسي، أو قصابين، أو خدم فنادق. ولم يكن أي من مترجميها الخمسة عشر في معتقل "أبوغريب" يملك مؤهلاً في الترجمة. وفي العام الماضي تحولت ملكية الشركة المذكورة إلى شركة عملاقة معروفة، وهذه بدورها يستجوبها "البنتاغون" في قضايا عدة، بينها فضيحة تجهيز أدوات تنصت فاسدة للقوات الأميركية في العراق. مع ذلك حصلت الشركة أخيراً على عقد بقيمة 5 مليارات دولار لتجهيز القوات الأميركية في العراق بخبراء في الاستخبارات وجمع المعلومات واستجواب المتهمين، إضافة إلى خمسة آلاف مترجم، يسميهم العقد "المقاتلون اللغويون"! مأساة المترجمين العراقيين، جريمة ضد الإنسانية اقترفها المحتلون الذين حولوا هذه المهنة المكرسة للتفاهم والتفاعل بين الناس والأمم إلى أداة بوليسية للاستجواب والتجسس والتعذيب! لقد حطم الاحتلال جسدياً وروحياً مئات من وارثي أقدم المهن الثقافية في تاريخ البشرية. فالترجمة وتعددية الألسن ارتبطتا بـ"برج بابل" الذي يُذكر في "التوراة" وفي كتب تاريخ علوم اللغة واللسانيات. وفي "بابل" ولدت أمُّ الحضارات الإنسانية متعددة الألسن. وأكاد أسمع "بكائية العيد" على المترجمين العراقيين تجهش في قصيدة ريم قيس كبّه "حب في زمن الحرب": "هلِ ألْ...؟‏- لستُ أدري. لقدْ...‏ ماذا؟‏... توزَّعتُ‏. لستُ أفكّرُ‏. أو أتذكَّرُ‏. قد أتوقَّعُ‏. أو أتشاءَمُ‏. أو أتفاءَلُ‏. لست أفكّرُ فيما أفكّرُ. وقد أحدَثَ الحبُّ شرْخاً بقلبي‏. أحبّكَ..‏. أنتَ‏. أحبّ الترابَ الذي هو أنتَ‏. فخذني إليكْ".