يحلم "أحمد هشية" الحاصل على شهادة جامعية في العلوم السياسية، بأن يصبح يوماً ما مصوراً صحفياً. لكن بعد بحث مكثف وغير مُثمر عن عمل يلائم مؤهلاته، اضطر الشاب الفلسطيني إلى العمل كحارس في جامعة "بيرزيت"، التي تخرَّج منها. ولم يبق أمام "هشية" سوى العمل بجد لادخار بعض المال على أمل الانتقال إلى أوروبا والانتساب إلى إحدى الجامعات هناك، ثم الحصول على عمل. وقد تضافرت مجموعة من العوامل لتساهم في تشكيل هذا الواقع الذي يدفع الفلسطينيين إلى التطلع نحو الهجرة بحثاً عن مستقبل أفضل، لاسيما في ظل الجمود السياسي الذي أعقب صعود "حماس" إلى السلطة، وتصاعد وتيرة العنف بين القوى الأمنية المتنافسة. وفي هذا الصدد يقول أحمد هشية: "أنا لست متفائلاً، فالوضع يتدهور يوماً بعد يوم، وربما وجدت فرصاً أفضل في الخارج"، مضيفاً "إن كل ما يحتاجه الشاب هو الحصول على عمل والتمكن من بناء حياة مستقرة، لكن عندما يرى الواقع الذي يطغى عليه الاحتلال والحصار والمستوى المعيشي المتدني، فضلاً عن الأزمة الأمنية، فإن ذلك يولد رغبة في الرحيل والخروج من الحلقة المفرغة". وعلى غرار "هشية" يبدي عدد متزايد من الفلسطينيين رغبة صريحة في مغادرة الضفة الغربية وقطاع غزة إذا ما أتيحت لهم الفرصة، مثيرين بذلك قلقاً متنامياً من احتمال هجرة الأدمغة الفلسطينية إلى الخارج. وبالنظر إلى الفكرة الراسخة لدى الفلسطينيين والقائلة إنه لا سبيل لمقاومة الاحتلال إلا عبر البقاء في الوطن والثبات على الموقف، فإن مجرد التفكير في الهجرة يكشف عن مدى تغلغل الشعور باليأس في الأوساط الفلسطينية منذ صعود "حماس" إلى السلطة إثر الانتخابات التشريعية السابقة. ولعل أكثر ما يفاقم الرغبة في الرحيل عن الأراضي الفلسطينية هو العنف المتنامي الذي يعصف بغزة، حيث قتلت القوات الإسرائيلية يوم الاثنين الماضي سبعة فلسطينيين على الأقل في واحد من أكثر الأيام دموية منذ اختطاف الجندي الإسرائيلي في 25 يونيو الماضي. وفي استطلاع للرأي أجراه الخبير في شؤون الهجرة نادر سعيد من جامعة "بيرزيت" ظهر أن نسبة الفلسطينيين الراغبين في الهجرة، والتي لم تكن تتجاوز 20% في السابق بلغت نسبة 32% في شهر سبتمبر الماضي. والأكثر من ذلك يضيف "سعيد نادر" أن تلك النسبة ترتفع إلى 44% لدى الفلسطينيين ممن هم في العشرينات، أو الثلاثينات من عمرهم، وترتفع أكثر في أوساط الشباب من الرجال إلى 50%. وفي نفس الإطار يقول "مالك الشوا"، الذي يعمل كمستشار متخصص في الحصول على تأشيرات كندية إن حجم عمله تضاعف إلى أكثر من الثلثين خلال الأشهر السبعة الأخيرة، حيث يستفسر المزيد من الفلسطينيين عن كيفية الرحيل. ويؤكد "مالك" أن موضوع الهجرة بات "القضية الأولى التي تشغل بال الفلسطينيين في هذه المرحلة، ولا يرجع ذلك فقط إلى ندرة الوظائف داخل الأراضي الفلسطينية، بل إلى الحالة العامة التي يطغى عليها انعدام الأمن وانحسار الثقة في الحكومة". وليس خافياً ما تختزنه عبارة الهجرة من مدلولات أليمة بالنسبة للفلسطينيين ترجع إلى حرب 48 ونزوح آلاف الأهالي من بيوتهم عقب قيام دولة إسرائيل. وفي هذا الصدد يقول "عبد الناصر نجار"، المعلق الفلسطيني في صحيفة "الأيام": "تعني الهجرة الهروب من الاحتلال والتخلي عن تحرير الأرض، إنها بمثابة وصمة عار على جبين الفلسطينيين، لكن الصورة تختلف قليلاً اليوم مع الضغوط الاقتصادية والنفسية الصعبة". ويقر رياض المالكي مدير منظمة "بانوراما" التي تعنى بالترويج للديمقراطية في قطاع غزة والضفة الغربية بأنه أصبح أكثر اهتماماً بموضوع الهجرة بالنظر إلى ما تطرحه من مشكلة إفراغ المجتمع الفلسطيني من أجياله المقبلة. ويؤكد "رياض المالكي" أنه في حال استمرار الفلسطينيين في التفكير بالهجرة، فإن ذلك "سيفرغ المجتمع من قاعدته، ولن نتمكن من بناء مؤسسات الدولة المستقلة في المستقبل". ولا يعني ذلك أن هناك تدفقاً كبيراً في أعداد المهاجرين الذين يغادرون الأراضي الفلسطينية، إذ تظل هناك دائماً مسافة بين التفكير في الهجرة والقيام بالخطوة على أرض الواقع بسبب الصعوبات المرتبطة بالإقامة في بلد آخر. ويعتبر "سعيد نادر" أن انشغال الفلسطينيين بالرحيل عن أراضيهم في هذه المرحلة هي بمثابة "صرخة احتجاج على الفاعلين السياسيين الذين فشلوا إلى حد الآن في الوفاء بوعودهم للشعب الفلسطيني وتحقيق الحد الأدنى من الحياة الكريمة".