بعد ثلاث سنوات من محاولة إخماد نار التمرد، ووضع حد للعنف المستعر في العراق، ها هي القوات الأميركية تسعى اليوم للعب بآخر "كرت" تبقى لها، ألا وهو خطة أمن بغداد. ومن المتوقع أن تخضع هذه الخطة للفحص والتعديل خلال الأسابيع القليلة المقبلة، في إطار مساعي القادة العسكريين الأميركيين لوقف تصاعد عدد القتلى والضحايا خلال الأشهر الماضية، بسبب تصاعد العنف والعمليات الانتحارية. وعلى رغم طرح هذه الخطة الجديدة، فإنه لا يبدو أن للقادة العسكريين من خطة بديلة لاستراتيجيتهم الرئيسية المتمثلة في إجلاء المليشيات الطائفية من المناطق التي تسيطر عليها، وإحلال قوات أميركية- عراقية محلها، ثم محاولة كسب عقول وقلوب الأهالي المحليين، عن طريق خطط ومشروعات إعادة البناء، الموقّع عليها من قبل الحكومة العراقية. وكما يطيب للقادة والجنرالات الأميركيين القول، فإن العاصمة بغداد تمثل في وجهة نظرهم، مركز جاذبية الجزء الغالب من المهمة الأميركية الحالية في العراق. لذا فإذا ما وقعت بغداد فريسة للعنف الطائفي وسيطرة المليشيات، فإن من المؤكد استحالة تحقق أية مساعٍ لبسط الأمن والاستقرار في الأنحاء العراقية الأخرى. وبالتقديرات ذاتها، فإذا ما أمكن بسط الأمن والاستقرار فيها، فإن على الأرجح أن تنتشر هذه الموجة، فتبدو آثارها واضحة على نطاق العراق كله. لذا فإن من الواجب أن تبدأ أية استراتيجية أو خطة لأمن العراق، من عاصمته بغداد. تلك هي ملاحظة الجنرال "بيتر دبليو. تشارلي"، وهو قائد عسكري أميركي في العراق. وتخضع الآن أفكار كثيرة للتمحيص والتحليل والنقاش في واشنطن، سواء في ذلك الجديد منها والقديم على حد سواء. وتشمل هذه الأفكار، احتمالات تقسيم العراق طائفياً، وهو ما تعترض عليه الحكومة العراقية والكثير من العراقيين. كما تشمل بدء المحادثات مع جيران العراق مثل إيران -مع العلم أن الحكومة العراقية قد شرعت فيها فعلياً، بينما لم تبدأ واشنطن خطوة كهذه بعد. والملاحظ أن بعض هذه الأفكار يبدو جذاباً للغاية، ليس لأي سبب آخر عدا كونه لم يخضع للاختبار العملي بعد. ومهما يكن من أمر، فربما تخضع الاستراتيجية العامة لبعض التعديلات، إلا أن المؤكد أنه لا شيء سينجح منها، فيما لو تحولت العاصمة العراقية إلى مدينة تمزقها الحروب الطائفية، مثلما كان عليه حال العاصمة اللبنانية بيروت من قبل. وربما لا يصل الوضع الأمني في بغداد إلى مستوى يكفي لبسط الأمن والاستقرار على نطاق البلاد بأسرها، غير أن ذلك لا يقلل مطلقاً من أهميته بالنسبة لأية خطة أو استراتيجية لا تسعى لترك العراقيين في مواجهة مصيرهم بأنفسهم. وبالقدر نفسه، فإنه يصعب على أي خطة عراقية أن تلقى نجاحاً، ما لم تتمكن من توفير الحماية الأمنية لسكان العاصمة أولاً. والاسم الذي تحمله الخطة الجديدة هو "معاً إلى الأمام 2"، وهي عبارة عن تكملة للجهد الأمني الذي بدأ في شهر يوليو المنصرم، بقصد خفض معدلات العنف في بغداد. ويشير الاسم نفسه إلى افتراض مشاركة الحكومة العراقية كطرف أصيل في جهود استعادة السيطرة على العاصمة. وإنه لغني عن القول بالطبع إن إنجاح هذه الخطة يتطلب تكامل الجهدين السياسي والعسكري معاً، بسبب أنها ليست معنية بإلحاق الهزيمة بعدو خارجي، بقدر ما هي محاولة لبسط الأمن والنظام في مدينة سيطر عليها عنف المليشيات والقوات المتمردة. غير أن المؤشرات الأولى لعائدات هذه الخطة وثمارها، تثير تساؤلات عديدة ومشروعة حول مدى قدرة حكومة نوري المالكي الحالية، على القيام بمهمة كهذه أم لا؟ وفي هذا السياق جاء على لسان الجنرال "جي. دي ثورمان"، قائد وحدة المشاة والقائد الأعلى للقوات الأميركية في العاصمة بغداد، قوله إن هذه مرحلة عصيبة وحاسمة من تاريخ النزاع. وعلى مسؤولينا إما الإمساك بهذه الفرصة أو اهدارها، مع العلم بأن الخسارة ستكون باهظة ومُكلفة جداً فيما لو فرَّطنا فيها. وبالنظر إلى أن خطة تأمين وبدء تنفيذ مشروعات إعادة الإعمار في المناطق الملتهبة المجاورة لبغداد، ستتطلب بضعة أشهر من الآن، فإنه يتعذر عملياً تقييم أي احتمالات لنجاح الخطة قبل نهاية العام الحالي، على أقل تقدير. وحتى الوقت الحالي، فإن هذه الخطة الجديدة لا تزال تفتقر إلى النتائج والموارد اللازمة لها بعد. والشاهد أن وزير الدفاع العراقي، لم يوفر سوى كتيبتين فحسب، من جملة الكتائب الست التي طلبها منه الجنرال "ثورمان". والمسألة هنا ليست عددية فقط كما قد يبدو. ففي اعتقاد بعض الضباط والقادة العسكريين الأميركيين، أنه ربما كانت قوات الجيش العراقي أكثر كفاءة من قوات الشرطة، وأنها تحظى بثقة الأهالي أكثر مما تحظى به الثانية. ولكن المشكلة أن الكثير من أفراد الكتائب العراقية آثروا الفرار من الخدمة العسكرية، على إطاعة الأوامر والذهاب لتنفيذ مهامهم الموكلة إليهم في العاصمة بغداد. أما بعض قوات الشرطة التي يتعين على القوات الأميركية العمل معها، فقد تم اختراقها من قبل المليشيات، كما هو واضح من الكثير من الشواهد والأدلة على ذلك. ولدى بعض الوحدات العراقية ارتباط واضح بالميليشيات، إلى حد استدعى سحب إحداها من الشوارع العراقية، بينما بدأت برامج تدريب للوحدات العاملة، بهدف الفصل بين مهامها ومسؤولياتها والانتماء الطائفي. وبين هذا وذاك، تضع القوات الأميركية نصب عينيها مراقبة حذرة لوحدات شرطة بعينها، يقال إن لها علاقة بالمليشيات الطائفية، مع اعتزامها التبليغ عنها لدى الحكومة العراقية. وعلى أي حال، فإن المتفق عليه في الخطة الأصلية الجديدة المقترحة هو أن تسيطر القوات الأميركية على المناطق التي يتم إجلاء المليشيات منها في العاصمة بغداد وضواحيها، لمدة تتراوح بين 60 و90 يوماً، وهي مدة تكفي لبسط الأمن والاستقرار، بما يمهد الظروف لبدء مشروعات إعادة الإعمار. فهل تنجح هذه الخطة إذا ما أجيزت في التصور النهائي؟ مايكل آر. جوردون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مراسل "نيويورك تايمز" في بغداد ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"